بيان خطأ الدكتور محمد شحرور في تفسير آيات الميراث: ج 3 ــ د. جواد يونس أبو هليل

0
1350

  قال (تعالى): ” يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” (النساء: 11).

شذ رأي الدكتور محمد شحرور عن رأي جمهور المفسرين والفقهاء فقال إن الجمل الثلاث “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ “؛ تتحدث عن حالة وجود ذكر واحد ضمن الأولاد، وعندما سئل عن سبب البدء بحالة عدد الإناث = 2 دون غيرها، مع أن المنطقي أن يتم البدء بحالة عدد الإناث = 1، قدم إجابة غير مقنعة على الإطلاق.

يقول د. شحرور في إحدى مقابلاته التلفزيونية إن القرآن الكريم قد بدأ بـِ “للذكر مثل حظ الأنثيين” لأنها تشمل جميع الحالات. ففيها المساواة بين حظ الذكر وحظ الأنثى بحسب فهمه (للذكر حظ يساوي حظ كل أنثى من الأنثيين)، وفيها أن للإناث (وهن 2 في هذه الحالة) الثلثين.

قد يتبادر للذهن أن هذا استنباط ذكي رائع. كنت سأوافق من يقول بهذا لو لم تكن للآية تكملة، فنحن نلجأ إلى الاستنباط عند غياب النص لا في وجوده. والسؤال المنطقي الذي يتركه د. شحرور بدون إجابة هو: لو كان استنباطه صحيحا فما الحاجة لقوله (تعالى): “فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ”. هل هذه زيادة؟! (حاشى وكلا).

ملاحظة: بينت في الجزء الأول من ردي أن فهم د. شحرور يستلزم أن آيات الميراث لم تبين جميع الحالات بل بعضها فقط.
===========

سأطرح تساؤلا مشابها على نفسي، وأقول: بافتراض صحة مذهب جمهور المفسرين والفقهاء (وهذا ما أعتقده) وهو أن الحكم “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ” خاص بحالة وجود ذكور وإناث ضمن الأولاد، وأن الحكمين “فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ” خاصة بحالة كون عدد الأولاد الذكور = صفر، فما هي الحكمة من هذا الترتيب؟!

الإجابة:

* من الطبيعي أن يتم البدء بالحالة الغالبة. لا تحتاج إلى إحصاءات دقيقة لتقرر أن في معظم الأسر ذكورا وإناثا بين الأولاد، وقلما تجد أسرة جميع الأولاد فيها ذكورا أو جميعهم إناثا. لذا جاء الحكم الخاص بهذه الحالة “للذكر مثل حظ الأنثيين” أولا.

* لماذا البدء بـ”الذكر” وليس “الأنثيين”؟

أتفق مع الدكتور محمد شحرور في أن الأصل في تقسيم الميراث هو النساء (ولهذا كانت آيات الميراث في سورة النساء)، وقد بينت في الجزء الأول من ردي عليه أن العديد من العلماء أشاروا إلى هذه النقطة فهي ليست بجديدة، لهذا صيغ حظ الذكر بدلالة حظ الأنثى وكأنه تابع له (فالترتيب اللغوي هو عكس الترتيب الرياضي الفعلي).

ولكني أحببت أن أضيف نقطة لم أقرأها بشكل صريح، ولفهمها يلزمنا أن نفهم طبيعة نظام الميراث قبل الإسلام.

لم يقتصر الحرمان من الميراث لدى العرب على زوجات المتوفى وبناته بل امتد إلى أبنائه الصغار الذين ليسوا في سن يؤهلهم لحمل السلاح! وأنقل من تفسير الطبري: “قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، تبييناً من الله الواجبَ من الحكم في ميراث من مات وخلّف ورثة، على ما بيَّن. لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن كان لا يلاقي العدوَّ ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده، ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية. فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سَمَّى وفرض له ميراثاً في هذه الآية، وفي آخر هذه السورة، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم: لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.”

وحتى بعد نزول هذه الآية، وكان الناس حديثي عهد بالجاهلية، فإن هذا الحكم لم يرض كثيرين! وأنقل من تفسير الطبري: “حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين “، وذلك أنه لما نـزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: ” تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة!! اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغيِّره “. فقال بعضهم: يا رسول الله، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبيَّ الميراث وليس يغني شيئاً؟! = وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا من قاتل، يعطونه الأكبر فالأكبر.”

ولهذا كان البدء ب(الذَّكَر) مناسبا جدا فكأن الله (تعالى) يقول لهم: للولد الذكر (سواء أكان كبيرا أم صغيرا) ما يعادل ما تأخذه أختان من أخواته، وفي هذا أخذ للاعتبار بما على الولد الذكر من مسؤوليات حالية إذا كان كبيرا، أو مستقبلية إذا كان صغيرا، دون ظلم للإناث.

* قد يستغرب القارئ بدء القرآن الكريم بالحالة الجزئية عدد الأولاد الإناث = 3 أو أكثر (فوق اثنتين) وقد يتساءل عن الحكمة من البدء بها قبل الحالة الجزئية التي يكون فيها عدد الأولاد الإناث = 1.

ولكن العجب ينتفي عندما نعلم مناسبة نزول هذه الآيات (وأتفق مع د. شحرور في أن الأَوْلى دعوتها “مناسبات النزول” لا “أسباب النزول” وهو اختيار علي (رضي الله عنه) كما يقول د. شحرور).

* ما مناسبة نزول آيات الميراث؟

وردت عدة أحاديث في مناسبة نزول آيات الميراث تُجمع على أن صحابية تُكنّى (أم كُجَّة)، اختُلف في اسم زوجها، توفي بعلها وترك لها بنات (قيل 2 وقيل 3 وقيل 5) ولم يترك لها أي ولد ذكر، فاستولى على وِرثته أخوه أو أبناء عم له (هناك خلاف في الروايات) فاشتكت إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فلم يُفتها وطلب منها أن تنتظر أمر الله في المسألة؛ فنزلت هذه الآيات. استدعى الرسول (صلى الله عليه وسلم) من استولى على الميراث من أقارب المتوفى، وأمرهم بدفع ثُمن التركة لأم كجة وثلثيها للبنات على أن يكون الباقي لهم.

رغم ضعف بعض روايات هذا الحديث وتضاربها في بعض التفاصيل إلا أن الحديث صحيح بمجموع رواياته، وقد حسنه أبو داود والشيخ الألباني (رحمهما الله)، وهي تُجمع (مع اختلاف في التفاصيل) على أن عدد البنات كان أكثر من واحدة.

قد يكون هذا سبب تقديم حالة “فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ ” على حالة “وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ” والله (تعالى) أدرى وأعلم.

* لماذا تأخرت آية الكلالة (الحكم في ميراث من لم يترك أي أولاد ومات أبوه قبله) وفصلت عن بقية آيات الميراث؟

قال (تعالى): “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (النساء: 176).

من المعلوم أن كثيرا من آيات القرآن الكريم قد نزلت في مناسبات معينة، ومناسبة آية الكلالة (الآية 176 من سورة النساء) التي تبين حكم الله في تقسيم ميراث من لم يترك أي ولد ومات والده قبله/معه (بحسب التفسير الراجح عندي لمعنى الكلالة) هي:

روى جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) فقال: مرضت وعندي تسع أخوات لي، فدخل علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فنضح في وجهي من الماء، فأفقت فقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن. قلت: بالشطر؟ قال: أحسن ثم خرج وتركني، ثم رجع فقال: لا أراك ميتا من وجعك هذا، فإن الله أنزل الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. وكان جابر يقول: نزلت فيَّ هذه الآية : “يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة”؛ خرجه النَّسائي، وأبو داود، والترمذي. (وللحديث شواهد في صحيح مسلم).

أما حكمة ترتيبها في المصحف في آخر سورة النساء، فقد تكون (والله أدرى وأعلم) أنها تخص حالة نادرة فقلما تجد متوفى ليس له أي أولاد ومات أبوه قبله/معه، كما أن بعض الروايات تشير إلى أنها آخر آية ما نزل من القرآن الكريم (وهذه مسألة خلافية) ولهذا ناسبها أن تكون آخر سورة النساء. قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء قال: آخر سورة نزلت: ” براءة “، وآخر آية نزلت: “يستفتونك”.

ملاحظات:

(1) أتفق مع د. شحرور في أن الحكمة من اختيار لفظة “حظ” بدلا من “نصيب” أو “حصة” هو أن لا يد للوارث في “حظه” من الميراث فلا المال ماله ولا عدد الورثة وجنس أي منهم من اختياره، أي أن المسألة أقرب إلى الحظ منها إلى أي أمر آخر، وهنا تتجلى دقة القرآن الكريم في اختلاف الألفاظ.

(2) أتفق مع د. شحرور في عدم صحة الفهم الذي أخذ به معظم الفقهاء من أن “إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد” تعني الولد الذكر دون الإناث.

قد يقول قائل، ولكنك قلت في وقت سابق إنه لا يمكن أن تخطئ الأمة في فهم أمر ثم …

سأقاطعه وأقول: على رِسْلك!

لم يفهم كل الفقهاء الأمر هكذا، بل هناك من شذَّ عن فهم الجمهور واعتبر أن المقصود “أي ولد”. الأهم من ذلك أن اللغة تدعم هذا الفهم (أي ولد) وأنقل من لسان العرب: “والولد اسم يجمع الواحد والكثير والذكر والأُنثى”، ولا ننسى قوله (تعالى): “وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا” (الجن: 3)، فليس لله أولاد ذكور ولا أولاد إناث (تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا). نعم، يمكن للكلمة أن تعني في سياق معين إما الذكر تحديدا أو الأنثى تحديدا، ولكن آيات الميراث نفسها تبدأ بقوله (تعالى): “يوصيكم الله في أولادكم …” فما هو مسوغ التخصيص في نفس الآية؟!

بالطبع المسألة خلافية، وانحيازي لهذا الرأي لا يسفِّه رأي الجمهور بل هو اختيار لما يطمئن إليه قلبي وتدعمه اللغة.

أحببت أن أورد هاتين الملاحظتين ليدرك القارئ الكريم أن ليس لي غاية شخصية في تسفيه رأي د. محمد شحرور ففي طرحه العديد من النقاط الجديرة بالدراسة، فأنا أوافقه حيث أصاب، وأخالفه حيث أعتقد خطأه. يبقى أن أقول دون أي مجاملات إن تماديه في إثبات نظرية باطلة من الأساس، بنفس المنهجية التي انتهجها هو، أمر يدعو للاستغراب.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here