قال (تعالى): “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)” (سورة يوسف).
استوقفني رد يوسف (عليه السلام) على امرأة العزيز عندما غلَّقت الأبواب (بتشديد اللام) وهيأت له ظروف ارتكاب الفاحشة، ثم بدأت بإغوائه.
* لم يقل يوسف (عليه السلام) “إني أخاف الله”، وهو الرد الذي ربما يتوقعه القارئ، بل كان رده “مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” … وهو رد بليغ جامع مانع اشتمل على 10 عناصر (على الأقل):
(1) تذكير النفس بالله (عز وجل)؛
(2) تذكير امرأة العزيز بالله (عز وجل)؛
(3) تعظيم الجرم (الزنا)؛
(4) تنزيه يوسف نفسه عن ارتكاب الفاحشة؛
(5) تذكير (وتخويف) امرأة العزيز بالزوج؛
(6) تذكير (وتخويف) يوسف نفسه برب العمل؛
(7) تذكير يوسف نفسه بفضل رب العمل؛
(8) تنزيه النفس عن نكران الجميل؛
(9) التذكير بالعاقبة؛
(10) وصف الجرم بالظلم؛
* لماذا لم يقل: “إني أخاف الله”؟
(1) وقع “معاذَ اللهِ” أشد على النفس.
(2) “معاذ الله” تقطع أي أمل لامرأة العزيز باستجابة محتملة من يوسف نتيجة مزيد من الإغراء والإغواء.
(3) “معاذَ اللهِ” أبلغ. وهذا يقودنا إلى التفكر في هذه اللغة المعجزة التي صادت أربعة عصافير بعبارة واحدة من كلمتين فقط!
(4) “إني أخاف الله” حديث عن النفس فقط وإن كانت له ظلال على المستمع.
(5) عبارة “إني أخاف الله” مستهلكة منذ القدم فكم قالها منافق! من الطريف أنها لم ترد في القرآن الكريم على لسان أي إنسان سوى هابيل، بينما وردت على لسان الشيطان مرتين:
– قال (تعالى): “وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (الأنفال: 48)
– قال (تعالى): “كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ” (الحشر: 16)
* ملاحظات لغوية:
(1) جاءت “غلَّقَت” بتشديد اللام للدلالة على المبالغة في الحرص على الإغلاق.
(2) جاءت “الأبواب” في الآية (23) بالجمع، لأن الحديث كان عن يوسف (عليه السلام) فقد سدت عليه جميع المنافذ التي يمكن أن يهرب منها. أما في الآية (25) فالحديث عن “الباب” (باب واحد بأل التعريف) لأن الحديث عن “سيدها” الذي يملك بلا شك مفاتيح كل الأبواب، ويملك أن تفتح له جميع الأبواب.
(3) قوله (تعالى): “وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ” إشارة لطيفة لما صاحب هذا القول من إغراء وإغواء. وهذا من أدب القصة في القرآن الكريم، حيث لم يسهب في سرد تفاصيل (محرجة) يمكن للقارئ أن يتخيلها دون التصريح بها. وأنا هنا أتعجب من بعض الأدباء الذين “يسهبون” في وصف جسم امرأة في قصيدة، أو الحديث عن علاقة حميمية في قصة/رواية. ألم يعلموا أنهم ربما يرتكبون “خطأ”، حتى من ناحية أدبية صرفة، فترك التفاصيل لخيال القارئ أعمق وأكثر تأثيرا!
(4) جاءت العبارات “إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ ” و “إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” و “إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ” مؤكدة بـ(إن)، وللهاء أيضا ظلال تأكيد بخاصة في قوله تعالى “إنه ربي أحسن مثواي” فقد كان من الممكن أن يقول “إن ربي أحسن مثواي”.
(5) لم يقل يوسف “إن سيدي أحسن مثواي” بل قال “إن ربي أحسن مثواي”، رغم أن أرجح التفسيرين تقول بأنه يعني هنا “سيده” أي “رب عمله”. وفي رأيي المتواضع أن لهذه الكلمة ظلالا لا تتحصل لكلمة سيدي، منها:
* أنها كلمة تحتمل الوجهين. فحتى لو أخذنا بالقول إنها تعني “سيده” فهي تذكر أيضا بأن الله قد أحسن مثواه بأن يسر له العمل في قصر العزيز الذي أحسن مثواه.
* أنها أكثر توافقا مع كلمة “أحسن” فهي تشير إلى علاقة فيها مودة وحب لا تعطيها كلمة “سيده”.
(6) قول بعض المفسرين أن يوسف (عليه السلام) ربما هم بامرأة العزيز تنفيه اللغة، فمن المعلوم أن (لولا) حرف امتناع لوجود فقد امتنع هَمَّ يوسف (عليه السلام) بامرأة العزيز لوجود رؤيته برهان ربه (دون الدخول في جدل حول ماهيته، وربما تكون بعض الإسرائيليات حول رؤيته لوجه والده يعقوب (عليه السلام) في تلك اللحظة أو تخيله له صحيحة؛ لا ننفي ولا نؤكد). ونستذكر هنا قول جرير:
لولا الحياءُ لهاجني استعبار *** ولزرت قبرك والحبيب يُزارُ
فمن الواضح أن الشاعر امتنع عن الاستعبار (البكاء) وزيارة قبر لحيائه (كما يقول هو).
(7) التعقيب في الآية (26) “إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ” مناسب جدا وبليغ من عدة أوجه:
* التأكيد على أن العبودية كانت لله، وهذا ما منعه ارتكاب السوء والفحشاء، وليس مجرد الخوف من رب العمل.
* التأكيد على الإخلاص الذي تجلى في تقوى الله حتى في غيبة الرقباء من البشر.
* التأكيد على أن الله ينجي العبد المخلص مصداقا لقوله (تعالى): “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا”. لقد كانت عودة العزيز في وقت لم تكن عودته متوقعة، واختراقه كل الأبواب رغم أن امرأته قد (غلَّقَتْ الأبواب) مخرجا ليوسف (عليه السلام)، فقد كان تهمة ارتكاب الفاحشة أهون من خضوعه المحتمل (نظريا على الأقل) لامرأة العزيز في حال أن زوجها لم يحضر، واستمرارها في إغوائه وإغرائه وهو الشاب الوسيم الأعزب!
(8) في الحديث عن امرأة العزيز، قال الله (تعالى): “وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا” ولم يقل “زوجها” ولا حتى “بعلها” وهنا إشارة إلى طبيعة العلاقة بين العزيز وامرأته التي كانت أقرب إلى علاقة السيد بعبده بعيدا عن المودة والرحمة التي هي طبيعة العلاقة بين الأزواج، وربما حتى بعيدا عن العلاقة الجنسية ولهذا لم يستعمل حتى “بعلها”. وقد يكون الحرمان العاطفي، وربما الجنسي، من أسباب تفكير امرأة العزيز في خيانته. ليس هذا تبريرا للفاحشة (معاذ الله)، ولكنها محاولة للغوص في شخصيات القصة ودلالات اللغة. وحتى عندما حرضت امرأة العزيز على عقاب يوسف فإنها استعملت عبارة “بِأَهْلِكَ” لما فيها من استثارة لحمية العزيز، ولم تستعمل عبارة “زوجك”!
هناك ملاحظات أخرى عديدة ولكني أكتفي بهذا القدر حتى لا يمل القارئ.