قراءة في قصيدة “إلهام تحملني: للشاعر يحيى الشيخ – ربيعة المنوني

0
1396

 

 

قصيدة “إلهام تحملني”:

هامَ الفؤادُ بِها مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِها

لَمّا تَنبّأَ لي بِالحُبِّ عَرّافُ !

ثُمَّ الْتقيْنا، فَشبَّتْ في مَراتِعِنا

حَرائِقٌ لِرَعيلِ العِشقِ تَنْضافُ

هِمْنا وَصارَ لَهيبُ الشَّوْقِ يُحْرِقُنا،

كَأَنّنا النارُ والآهاتُ صَفْصافُ

“إلْهامُ” تَحْمِلُ لي أَنْصافَ مَمْلَكَةٍ

تَحْلو، فَيَعْقُبُها تِيهٌ وَإِتْلافُ

حُلُولُها حِينَ يَأْتي اللَّيْلُ مُنْكَسِراً

كَأَنَّها كَحُلُولِ الشَّرْقِ أَنْصافُ

إنّي لَأَعْجَبُ منْ قَلْبٍ تَصَيَّدُهُ

ذاتُ العُيونِ كَأَنَّ الكُحْلَ مِجْرافُ

يا لَيْتَني مَرْكبٌ آلاتُهُ انْكَسَرَتْ

وَسِحْرُها في عُبابِ الماءِ مِجْذافُ

ما كانَ «قِفْ!» قَوْلُها، إلاَّ لِتُتْلِفَني

يا لَيْتَ «قِفْ!» فُصِلَتْ عنْ فائِها القافُ

«فِ!»، لَوْ تَقولُ، أَفي كُلَّ الوَفاءِ لَها،

يَا هَلْ تَفي، فَوَفاءُ الوَعْدِ إِنْصافُ؟

الحُبُّ حُلْوٌ إذا ما ذُقْتَ أَوّلَهُ،

وَفي النِّهايةِ نَطْعٌ ثُمَّ سَيّافُ

لا تَنْدُبُوا أَسَفاً حَظّي وَمُنْقَلَبي،

قدْ ماتَ قَبْلي مِنَ العُشّاقِ آلافُ !

وماتَ مَجْدُ بِلادِ الشَّرْقِ قاطِبَةً

إذْ لَمْ يَعُدْ لِبِلادِ الشَّرقِ إتْحافُ

أمّا العُروبةُ، حَدِّثْ غَيْرَ ذي حَرَجٍ

وَاسْتَغْفِرِ اللهَ، فَالْأَعْرابُ أَجْلافُ

لَعَلَّ رَبّكَ يَلْقاهُمْ إذا اتَّحَدُوا،

أَوْ إِنْ هُمُ صَمَدوا، أَوْ إِنْ هُمُ خافُوا!

فائية استُهلّت بهيام وانتهت بوعيد وبين الهيام والوعيد قاموس مهول من المفردات انتُقيتْ على فرازة بعناية شاعر من زمن جهابذة اللغة، من تصطف على أبوابهم كلمات المعاجم وليس لهم إلا حرج الاختيار، من تنصاع لهم الحروف انصياع الجياد للفرسان. كلمات تشب في الوجدان كالنار في الهشيم، يبقى القارئ حائرا بينها، يجول بخلده ألف سؤال وسؤال: “إلهام” امرأة صُنعت من حقيقة واقع الشاعر؟ أم هي حبيبة هاربة من مخيلته؟ أم أنثى كُتِبت على لوح قدره؟ تحمل له أنصاف مملكة “كحلول الشرق” المبتورة، الكسيحة؟ أم هي تلك الأرض التي يبكيها والعروبة التي يرثيها؟ رمزية قوية نحتها باحتراف بكلمات جذابة وإحساس جارف. حب حدّ الوله وغيرة حد الثورة وخيبة تنخر أحشاءه حتى لنكاد نلمس النتوءات على مسام جلده. ذكاء في اللعب بالمفردات “أَنْصاف” و”إِنصاف”، وحروف تحمل من المعاني “فِ” كل جمال الاختزال وقوته، روعة لغة الضاد التي لا تُضاهى، بلاغة وبيان سكب فيهما المعنى والمبنى معاً. قصيدة كتبت بماء الذهب، تعلق على أستار المجاز.

قصيدة إلهام تعود بالقارئ إلى زمن الوهج في الشعر، تلقي به بين أحضان نوستالجيا زمن النظم والقريض، حيث كان الشاعر يقف في المجالس ويرتجل الكلام دون عناء، في وقت أصبح فيه الكثيرون “من أشباه الشعراء” يدعون تجديد أنماط الكتابة الشعرية وهم يجهلون أبسط قواعد اللغة العربية، فيأتون على الأخضر واليابس. ما كل من ادعى الشعر شاعر.

القصيدة العمودية يجب فيها الالتزام بالعروض ويشترط فيها الغنى في القاموس اللغوي والبلاغة والفصاحة وحسن البيان.

قصيدة “إلهام” على وزن البحر البسيط مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن، سمي بالبسيط لانبساط أسبابه ولجمال وخفة وقع وزنه على أذن المستمع، بحر يحتمل الزحافات والعلل، من طي وخبن وخبل (حرائق لرعيل العشق تنضاف): مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فعلن. حذف الساكن في التفعيلة الأخيرة وهو ما يسمى بالخبن)… وبعيدا عن تجزئة العروض التي تكاد تكون عملية رياضية بحتة لا يتقنها الجميع، يأتي بناء القصيدة ككل والتي يمكن أن تكون بحد ذاتها وبشكل مستقل مقدمة غزلية من الطراز الأول لقصيدة أطول أي أن لشاعر له إمكانية إضافة أبيات متى وكيف شاء دون أن تنهار الوحدة العضوية للقصيدة.

بخلاف القصيدة العمودية التقليدية التي كان الشاعر فيها يتوخى توظيف مفردات صعبة وغير متداولة للتعجيز غالباً، إذا أخذنا بعين الاعتبار المرحلة ككرونولوجيا، حيث كان النظم نوعا من المباراة اللغوية والبلاغية يبغي من ورائه الشاعر التفرد والدخول في السجال الشعري لأنه يتحدث بلسان قبيلة بأكملها، نفاجأ بالشاعر في قصيدة “إلهام” يستعمل مفردات سهلة عمدا لا عجزا لأنه ومن دون شك يضع نصب عينيه الجو الثقافي العام للمتلقي، بدل أن ينفره من القصيدة بإعجازه، يجعلها في متناوله ويقحمه في القضايا المتناولة فيها برفق وانسيابية.

 الحقل السيميولوجي للقصيدة ككل في متناول القارئ وهذا هو السهل الممتنع.

 ركز الشاعر أكثر على الصور الشعرية، استهلال بالغزل ومخاطبة مشاعر المتلقي بصيغ مجازية متعددة تدل على تمكنه واستعماله الذكي للمجملات اللغوية والبلاغية، من تشبيه واستعارة ومجاز يهيء المتلقي نفسيا للغوص به لاحقا في قضايا الساعة وهذه هي الثورة في القصيدة العمودية لدى الدكتور يحيى الشيخ، ما يجعلك تدرك واقعك لتعيه أولا  وتنتقده ثانيا ثم تتفاعل مع النص عقلا ووجدانا ولم لا إبداعا أيضا، تعرية لقضايا مسكوت عنها، أوطاننا المغتصبة، هويتنا المسلوبة وعروبتنا التي يتاجر بها. ومن تم تعددت الأبواب في هذه القصيدة من غزل ومدح وهجاء ورثاء، وقلما يتسنى لشاعر الجمع بين كل هذه الأبواب في قصيدة واحدة.

قصيدة إلهام ثورة في الكتابة الشعرية مضمونا مع الإبقاء على الشكل التقليدي، كمن يسكن قصرا، يبقي على معماره العربي القديم الفخم ويؤثثه بحداثة تزيده بهاء وجمالا.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here