هنا أكتب استكمالا للمقال السابق بعدما قرأتُ لبعضهم محاولته واستماتته لربط موضوع الأخلاق بالنقد الشعري الفني حينما استشهد بكتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني،
وقد اسشتهد في نقده ومقاله بباب (النسيب) في كتاب العمدة،
والنسيب لمن لا يعرف هو الشعر الغزلي الذي يذكر فيه النساء وصفاتهن، والتشوق لهن، إلى آخر تلك المواضيع الغزلية التي يعرفها حتى من ليس بشاعر.
فقام هذا الكاتب بسرد بعض الأمثلة من باب النسيب، وهو يظن أن ابن رشيق حينما أحضر أمثلة لأبيات فيها معاني مُعابة أو خاطئة من حيث الذوق وملاءمة الموضوع؛
ظنّ أن ابن رشيق يقصد بذلك العيب الأخلاقي.
ولم يكن يقصد ابن رشيق العيب الأخلاقي، إنما العيب الذي ينافي الذوق الفني والشعري، وسوف أوضح ذلك بالدليل من نفس الباب (باب النسيب)، ومن نفس الكتاب (كتاب العمدة)،
لكن لنقرأ أولا ما استشهد به هذا الكاتب، الذي يستميت لجعل معيار النقد هو الأخلاق في أبيات لجرير انتقدها ابن رشيق، حين قال جرير :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
والعيب هنا أن تقول لمن تحب ارجعي بسلام، وليس هذا وقت الزيارة، سواء كانت الزيارة حقيقية أو حتى زيارة الطيف، فلا يقول لمن يزور ارجع إلا لو كان أميرا أو مديرا أو صاحب وزارة، فهذه أخلاق الأمراء وليست أخلاق العشاق.
فالغزل بهذه الطريقة يبين جلافة العاشق وينفي عنه صفة العشق، فلذا هو معنى خاطئ فنيا شعريا حسب موضوع الغزل ولا يعني أنه عيب أخلاق.
وفي الأصل لو تأملنا البيت فهو لا يتعارض مع الأخلاق حينما تقول لمن تحب أن يرجع بسلام ولا يقابلك، فذلك أيضا مناسب للرجل العفيف الذي يبعد عن الشبهة والحرام واللقاء والمواعدة مع المحبوب.
المثال الثاني :
استشهد واستدل الكاتب بنقد ابن رشيق وقصة الشاعر كثير عزة مع الشاعر نصيب بن رباح حينما سمع منه البيت:
أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت
فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
حتى قال كثير عزة لنصيب : كأنك اغتممت لمن يفعل بها بعدك، وهو لا يكنى.
فهو هنا يظن أن ابن رشيق أو كثير عزة يعيب على نصيب في هذا المعنى، ويتهمه بعيب أخلاقي وهي الدياثة، لكن التهمة هنا هي بالمعنى الذي أخطأ فيه نصيب حيث هو ظن أن صاحبته لن تجد مثله من بعد موته، وهو يتكلم مشفقا على محبوبته، لكن أسلوبه وطريقته في التعبير أظهرته بمظهر الديوث أو قليل الغيرة الذي يحاول أن يجد لحبيبته حبيبا بعد موتها، وكان يمكنه إصابة المعنى نفسه بتعبير آخر لكن أخطأ.
فمن يظن أن ابن رشيق أخرج هذه الأمثلة وانتقدها من معيار أخلاقي هو مخطئ ويتوهم، فابن رشيق بيّن معاني العشاق، وقال أن معاني العشاق لا تجيء هكذا في شعر الغزل، وهذا يعتبر إما جلافة أو دياثة دون الاتهام الأخلاقي.
والدليل أن ابن رشيق لم يكن يقصد العيب الأخلاقي في نقده الأبيات هو أنه في نفس الباب استجاد وأحضر أمثلة ناجحة للغزل لشعراء مختلفين، ومن ضمن الأبيات التي استشهد بها هي أبيات لأبي نواس حين يقول :
كأن ثيابه أطلع *** ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسناً *** إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفت *** ير من أجفانها الحورا
وخد سابري لو *** تصوب ماؤه قطرا
فهذه القطعة، ابن رشيق استشهد بها من ضمن الأمثلة الناجحة والطرائق المميزة في الغزل.
لكن الغريب في الأمر أن أبيات أبي نواس هذه كانت في غزل المذكر(غزل الشواذ)، فهو بهذه الأبيات يتغزل بغلام وولد.
ومع ذلك استدل بها ابن رشيق مع جملة الأمثلة التي ذكر أنها جيدة في الغزل.
ومن أراد أن يعرف أن القصيدة في غزل المذكر فلينظر للقصيدة كاملة ومطلعها (دع الرسم الذي دثرا)
فقبل تلك الأبيات استشهد بها ابن رشيق، قال أبو نواس:
لو أن مرقشا حي *** تعلق قلبه ذكرا
كأن ثيابه أطلعن *** من أزراره قمرا
فهو صريح المجون في هذا، ومع ذلك ابن رشيق لم يقل أن هذا المعنى معاب في الغزل.
معنى ذلك أن نقده لأبيات جرير ونصيب لم يكن نقدا أخلاقيا في الأصل، إنما نقد لطريقة وأسلوب التغزل والكتابة، كان نقدا فنيا خاليا من أي معايير أخلاقية كما زعمها هذا الكاتب المستميت لقضية ليست من قضايا الشعر أصلا، وهي قضية جعل الأخلاق من معايير النقد للشعر.
وإلا يمكننا أن نسأل من يظن أن نقد ابن رشيق للمعاني هو نقد أخلاقي ونسأله بصريح العبارة :
لماذا لم ينتقد ابن رشيق أو غيره معاني أبي نواس في تغزله بالغلمان والذكور، وهو أشدّ عيبا مما قاله نصيب أو جرير ؟؟
هل مثلا ابن رشيق بينه وبين أبي نواس نسب واتفاق على أن يجامله ولا يبين أخطاءه؟؟
الإجابة بسيطة حتى لمن لا يعرف الشعر حينما نحضر هذه المقارنات البسيطة، نعلم تماما أن ابن رشيق لم يكن ينقد جرير أو نصيب من الجانب الأخلاقي. واعتماده أبيات أبي نواس في جملة الأبيات الجيدة مع أن موضوعها أكثر فظاعة من شعر جرير ونصيب خير دليل.
مشكلة البعض أنهم يريدون إقحام إيدلوجياتهم الخاصة سواء كانت دينا أو سياسة في أمر الشعر، وهذا ما أفسد الشعر، وإني من خلال هذا المقال أدعو الجميع الحذر من المقالات النقدية غير المؤسسة بمنهج علمي في الفيس وغير الفيس، لأنها تفسد أذواقكم وتخرب عليكم نظرتكم للشعر، ولا يغرنكم الألقاب أو المسميات؛ الناقد والدكتور وعدد اللايكات واحتفاء الداني والقاصي بمقال ضعيف مبني بطريقة عمياء غير فاحصة، يستشهد بصفحات في كتاب، وينسى صفحات لأنه يعلم أن أغلب الناس لا يقرأون المصادر، ولا يقرأون الكتب.
وللأسف فنسبة كبيرة من المتكلمين بالنقد والشعر في زمننا ليسوا نقادا، وليسوا شعراء مجيدين بالأصل، فلا يؤخذ برأيهم من الأصل. ومثل هؤلاء إذا حاججتهم بالمنطق ليس لديهم حجة أو برهان ليردوا عليك، ويشخصنون الأمور وهذا غاية الفشل.
#ظميان_غدير