هذا الكتاب المعجز الخالد لا تنتهي عجائبه .. فما نكتشفه من أسرار الجمال في سورة ما لا يتكرر في غيرها تماما .. إذ تكاد أن تكون كل سورة من سوره المئة والأربع عشرة كونا فنيا بلاغيا منفردا .. وهذا من البراهين على كونه إلهيّاً .. فأعظم الشعراﺀ و الأدباﺀ لا يمكنه ابتكار هذه الأنساق والفرائد والفوائد والبنى المدهشة في نصوصه جميعا ضمن مبدئَيْ : التفرّد الذاتي ( لكل سورة فرادتها ) والانسجام الجمعي ( كل السور منسجمة بروابط فنية و دلالية .. حتى إن اللبيب ليعرف الكلام إن كان حديثا نبويا أو قرآنا من الوهلة الأولى. ولو لم يكن قد حفظ القرآن ).
سورة الضحى :
———————
السورة مكية، وهي من قصار السور، وقد نزلت بعد فتور الوحي تطييبا لنفسه صلوات الله وسلامه عليه الذي أحزنه انقطاع الوحي فُتيرةً في بدﺀ الدعوة.
ويمكن تقسيم السورة إلى ثلاثة أقسام دلالية – فنية :
1- القسم الأول : القَسَم وجوابه.
2- القسم الثاني : الامتنان الرباني.
3- القسم الثالث : الطلبات الإلهية.
والمدهش أن كل قسم فيه ثلاثية أيضا :
—————–
– القسم الأول :
—————–
يُقْسِم الله سبحانه وتعالى بزمنين متقابلين : الضحى والليل الساجي ( حين ينام الناس وتتلاشى الأصوات والحركة ) نقول: البحر الساجي هو الهادئ.
فإن كان وقت الضحى قبيل منتصف النهار ( حين ترمض الفصال ) فالليل الساجي قبيل انتصاف الليل.
وهذان الوقتان اللطيفان المخلوقان ( وضوح النهار دون أذى القيظ وهدأة الليل دون الإغراق في بحر النوم وقتان مختاران عند الأوّابين للتعبد صلاة وتسبيحا واستغفارا ( كأدعية النوم ))،
فلهما قداسة عند الخوّاص ( أما قداسة الفرائض فعند المسلمين جميعا ).
إذن أقسم الله تعالى بزمنين مختصين
ولله أن يقسم بما شاﺀ.
وجاﺀ جواب القسم بصورتين :
الأولى وتتمثل بالنفي :
“ما ودّعكَ ربُّك وما قلى”
والتوديع : ترك مع الحب
والقلي : ترك دون حب
فالله يطيّب نفس رسوله عليه الصلاة والسلام : لم أتركك ترك محبة ولا ترك بغضاﺀ .. فالترك بأي صورة هو المتروك.
والصورة الثانية المتممة لجواب القسم تتمثل في الإثبات.
وجواب القسم المثبت لا بد أن يؤكد، وقد أكد هنا باللام ( لا أقصد أنه جواب قسم نحويا، ولكنه كذلك في الدلالة ) :
“وللآخرةُ خير لك من الأولى”
اللام الداخلة على هذه الجملة الاسمية هي لام الابتداﺀ التي تمنح الكلام تأكيدا.
والله أعطى نبينا – من جملة ما أعطاه – خمسا لم يعطهن نبيا من قبل، وأعطاه حفظ رسالته ( القرآن الكريم )، وأعطاه بقاﺀ دينه حتى يرث الله الأرض ومن عليها ..
لكن العطاﺀ الأخروي خير : الحوض والشفاعة والفردوس الأعلى..
“ولسوف يعطيك ربك فترضى”
وقد تأكدت الجملة الفعلية هنا أيضا بلام الابتداﺀ..
ويقولون إن سوف حرف استقبال مع التراخي. فالله في المستقبل يعطي نبيه حتى يرضى ( وقد أعطاه الأنصار والانتصارات وفتْحَ مكة وأقر عينه بكل ما أراد صلى الله عليه وآله وسلم )
والفعل مضارع يفيد الاستمرار : العطاﺀ الرباني حاضرٌ ومستمر : فنزول القرآن الكريم عطاﺀ، وانتصار الدين على وثنية شبه الجزيرة العربية عطاﺀ، وانتصار دينه على الفرس و الروم وغيرهم عطاﺀ، و انتشاره ( ليظهره على الدين كله ) عطاﺀ،
وقد عيّر المشركون رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – أنه أبتر ( مقطوع الذرية لموت بنيه ) فقطع الله سلالة المعيّر وما زال نسب محمد عليه السلام في الأرض من حفيديه الحسن والحسين رضوان الله عليهما
أليس هذا عطاﺀ أيضا ؟
ولذلك مدح المتنبي رجلا من السلالة المطهرة فقال :
وأعظمُ آيات التهاميِّ أنهُ
أبوكَ وأجدى ما لكم من مناقبِ
يقول : صدق القرآن أن شانئ النبي هو الأبتر وأما محمد صلوات ربي عليه فليس بالأبتر .. بدليل انتسابك أيها الممدوح لشجرته الطيبة المباركة ..
——————
– القسم الثاني :
—————–
وهو قسم الامتنان الرباني بذكر بعض عطاﺀ الله سبحانه لعبده وخير خلقه عليه الصلاة والسلام.
فيكون العطاﺀ الموعود امتدادا لهذا العطاﺀ المشهود :
وفي هذا القسم ثلاثية أيضا :
– آواك الله وكنت يتيم الأبوين دون مال ولا ظهر ولا سند (ذكروا أن القصد زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها وكانت ذات مال وأنجبت له بنات و بنين، فصار لخير خلق الله بيت يلوذ به، وزوج يسكن إليها، ومال يستعين به، وذرية يمتدّ بهم).
وهذا المعنى وارد غير أنه ليس الوحيد..
فظهور المؤمنين بعد ذلك إيواﺀ ومؤازرة، وخاصة الذين أسلموا من المدينة المنورة فهم الذين نصروه وآووه و آووا دعوته وأصحابه ..
وكل هذا من لطف الله تعالى..
“ووجدك ضالا فهدى”
يقول العربي : ضلت ناقتي
أي تاهت وضاعت
وسيدنا النبي لم يكن في يوم من الأيام من الضالين الوثنيين مرتكبي الكبائر مقترفي الجرائم..
لكنه كان يبحث عن حل للإنسانية الضائعة متمثلة في مجتمع مكة الوثني.
كان في غار حراﺀ يتحنث بحثا عن إنصاف المظلومين، ومحو مظاهر الفجور والخنا من مدينة جده إبراهيم عليهما السلام.
فالضلال هنا : تيه الباحث عن الحق ونشدانه للجواب الشافي إذ هو في ضياع السائل عن الحل.
والجواب الإلهي : أن الله هداك فأنزل عليك جبريل ليهديك صراطا مستقيما.
“ووجدك عائلا فأغنى”
والعائل الفقير الذي يعول غيره .. وعائلة رسول الله لا تنحصر في السيدة خديجة وبناتها وابنيها .. هذا هو المعنى المحدود..
المعنى الأكبر : كل المؤمنين عائلة واحدة “إنما المؤمنون إخوة”.
وقد تكفل الله برزقهم وحياتهم شرط التوكل عليه.
وقد خرج المسلمون من شبه الجزيرة العربية الفقيرة الجدبة ليسودوا الشام وفارس وشمالي أفريقيا .. حتى دخلوا الأندلس فقراﺀ فعاشوا في القصور .. وهذا هو الإغناﺀ الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .. ولذلك قال سيدنا عمر : ” نحن قوم أعزنا الله بالإسلام …”
——————-
– القسم الثالث :
——————-
وهو قسم الطلبات الإلهية أو التكليفات :
وهو أيضا ثلاثي البناﺀ..
ومن عظمة الإحكام أن تأتي التكاليف صدى للعطايا في قسم الامتنان نظائرَ لها واحدة واحدة :
فقد امتن الله على خير خلقه أنه آواه بعد يتم، ولهذا نهاه عن قهر اليتيم : “فأما اليتيمَ فلا تقهر”.
وامتن عليه أنه هداه بعد ضلال البحث والحيرة، فنهاه لقاﺀ ذلك عن نهر السائل : “وأما السائل فلا تنهر”.
والدين إجابات شافية عن أسئلة وجودية لا تهدأ. ولذلك كثر في كتاب الله أسلوب ( يسألونك )، فقد كان الرعيل الأول كثير السؤال. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أوتيت العلم من لسان سؤول وقلب عقول.
والنبي عليه صلوات الله هو المعلم المسؤول الذي لا يكف الناس عن توجيه الأسئلة له. والصحابيات كن يسألن أيضا ولم يكن يمنعهن حياؤهن من السؤال.
وقال بعض الحكماﺀ :
اثنان لا يتعلمان : المتكبر والخجول.
وكلاهما لا يسأل .. أحدهما تكبرا والآخر خجلا وضعفا.
ولما كان الله سبحانه قد امتن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بالإغناﺀ بعد عيلة وفاقة واحتياج.. أمرَه في هذا القسم بالتحدّث بنعمة الله.
والتحدث بنعمة الله ذكرٌ وحمد وشكر “لئن شكرتم لأزيدنكم”.
– تعليقات فنية على السورة :
————————————-
الفاصلة القرآنية ( ما يعدل السجعة في النثر المسجوع والقافية في المنظوم ) جاﺀت في هذه السورة على هذا النحو :
الآية : الفاصلة :
ه—— ه——–
1- مقصورة
= 2
= 3
= 4
= 5
= 6
= 7
= 8
ويلي ذلك ثلاث آيات :
– الآية التاسعة : طلب بالنهي ( لا تفعل ) : لا تقهر
بالوقف على راﺀ ساكنة
– الآية العاشرة : طلب بالنهي أيضا ( لا تفعل ) : لا تنهر.
والوقف على راﺀ ساكنة أيضا.
وهذا التوازي الدلالي في الآيتين يعضده التوازي الصوتي : لا تقهر – لا تنهر ( وبينهما ما سماه أهل البديع بالجناس الناقص ) الذي يأتي دون تكلف ولا افتعال في غاية الجمال المعجز الذي تخر له الألباب والجباه.
وتنفرد آية الختام بالطلب الأمري :
“فحدّثْ”
وفيها يقف القارئ على الحرف الأساس في الوقف ( الثاﺀ ) وهو من الأحرف اللثوية التي يظهر جمالها في كلام الفصيح .. لا أجمل ولا أفصح من التحدث بنعم الله .. !
وهذا التميز الصوتي في هذه الآية ملائم لكونها قفلة السورة المدهشة.
– السورة رسالة بين مرسل و مرسل إليه :
—————————————————–
أما المرسِل فهو الله جل شأنه، وأما المرسَل إليه فهو عبده ورسوله الخاتم سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الحقيقة تتأكد في بنية السورة النحوية :
– المرسِل :
————–
ربّ( ك) آية 2
ربّ( ك) آية 5
ربّ( ك) آية 11
هذا بالألفاظ الظاهرة اختصارا عن ذكر الضمائر المستترة. فذكرها يؤكد الهيكل الثلاثي لهذه السورة الفريدة أيضا.
– المرسَل إليه :
——————-
– كاف المخاطب – آية 3
– كاف المخاطب – آية 3 أيضا
– كاف المخاطب – آية 4
– كاف المخاطب – آية 5
– كاف المخاطب – آية 5 أيضا
– كاف المخاطب – آية 6
– كاف المخاطب – آية 7
– كاف المخاطب – آية 8
– كاف المخاطب – آية 11
وبعض ضمائر المخاطَب عليه السلام حذفت هنا للعلم بها :
فآوا( ك ) – فهدا( ك ) – فأغنا( ك)
ولا يؤثر ذلك في استنتاجنا أنه اما كانت السورة رسالة إلهية تكفكف من أحزان النبي عليه الصلاة، وتمحو قلقه وخوفه وجزعه من احتمال انقطاع الوحي، ولذلك ظهر الخالق بلفظ الربوبية ( الرب هو السيد المنعم المتكفل المغني الراعي ..) فلا تخش شيئا يا رسوله المصطفى المختار عليك صلاته وسلامه.
وظهر النبي مخاطَبا مرات أكثر لكونه محور السورة الشريفة.
وظلت الرسالة الإلهية للمؤمنين جميعا في كل العصور : من كان الله ربه فلا يحزن ولا يبتئس ..
والبنية الثلاثية بظهور كاف الخطاب مؤكدة ( 9 مرات = 3× 3)
والله أعلم..
حلب : 2022/7/26م