القصّة فنّ أدبي نثري قديم، اتّصلت بتراث الأفراد والجماعات، وازدادت عناصرها وخصائصها تبلوراً وتأطيراً في العصر الحديث وما بعده، فصار هذا اللون واحداً من الأدوات التي تصوّر الواقع الانسانيّ والاجتماعيّ، وذلك للعوامل الآتية:
1 بنيتها الفنية:
فالطابع السردي من شخوص وأحداث ومكان وزمان كفيل بأن يقدّم صوراً قريبة من الواقع، وَقِطَعاً من الحياة؛ وهو الأمر الذي يجعل القارئ يبحث عن شبهه في القصّة، أو عن حدث عاشه أو يمكن أن يعيشه.
2 قابلية التأويل وتعدد القراءات:
القصة كيان أدبيّ يحقّق متعة القراءة من جهة، ويفسح المجال للقارئ للكشف عن الرسائل الضمنيّة والخفيّة التي يمكن أن يمرّرها الكاتب من خلال نصّه، فهي خلاصة تفاعل أبعاد نفسيّة اجتماعية سياسية..
3 صناعة ذات المتلقي:
قد لا يركن القارئ إلى كتاب يقرؤه في علم النفس أو الاجتماع أو غيرها، لكنه قد يعمد إلى قصّة يطالعها، فيستفيد من قِيَمها، ويستعير بعض مواقفها، وقد تساعده قصّة أو قصص ما في اتّخاذ بعض قراراته في الحياة، وهذا راجع بقدر كبير إلى قدرة الكاتب في أن يداعب أوتار الجانب الإنساني للقارئ، وأن يراها في مرايا إبداعه.
4 اللغة المؤثّرة:
لغة السرد لغة معبّرة دقيقة فائقة الحرص على جذب ذوق القارئ وشدّ عنايته بالحَدَث والشخص المراد تصويره، وهو ما يحقّق متعة القراءة وتتبّع الأحداث من جهة وعقد أواصر الصداقة مع الفنّ القصصي والأديب من جهة أخرى.
لهذه الأسباب وأكثر كانت القصّة وستكون من أكثر الألوان الأدبيّة قدرة على وصف الواقع وتصويره، وتكوين مواقف الفرد والجماعة تجاه الأحداث السياسيّة والأوضاع الاجتماعيّة والحالات النفسيّة والقيم الإنسانيّة. لذا تحتاج القصّة العربية المعاصرة أن يولي القاصّ الاهتمام بصور تطويرها وتعزيز قيمها ورسائلها، وتحتاج من القارئ عناية بها وإقبالا عليها، حتّى تتحقّق غايات المتعة وتأطير الذات في آن واحد.
وبينَ يديَّ مجموعة قصصية مؤلّفة من خمس عشرةَ قصّة، للكاتب محمد بن يوسف كرزون، جمعتْ ما بين الفنّ القصصيّ المحبّب والرسائل الذكيّة غير المباشرة، واللغة الجميلة التي حملتْ ذائقةً فنّيّةً خاصّة بالكاتب تغري القارئ بالقراءة، وتشدّه إلى متابعةِ أيّ قصّة من قصص المجموعة حتّى نهايتها.
ونبدأ مع المجموعة، لنقف عند قصصها ما أأمكننا. فقد استهلّ قصصه بقصّة حملت عنوان المجموعة القصصية عنوانها (صديق واحد)، وقد أتتْ صورةً سريعةً خاطفة عمّا يمكن أن تصنع صدمات الحياة بالإنسان النديّ ذي القلب الصافي والإحساس الصادق، عندما بدت لنا شخصية البطل «أبو اللول» ضائعة منسيّة، سُلِبَتْ منها تفاصيل حياة بسيطة كانت تعني له الكثير، فصار الصديق الذي منحه هذه التفاصيل قبراً يأوي إليه كلّ صباح.
وتستمرّ فكرة صدمة البطل، وتنتقل من قصّة صديق واحد إلى قصة (الغراس العطشى)، إذْ يصوّر الكاتب روعة الحبّ الهادئ المسالم الذي يكتفي طرفاه بعفويّة اللقاء ووداعة التواصل بينهما، ليتحوّل بعد ذلك هذا الإحساس إلى هزّة داخليّة عنيفة في ذات البطل «عمّار»، الذي لم يكن يعلم أنّ مدّة سفره لبناء مستقبله، كانت مدّةً استبدّت فيها شظايا بركان الغياب بالذكريات الجميلة في ذات حبيبته «ليلى»، فغدت أثراً من الماضي.
لينقلنا الكاتب في رحلة فلاشية سريعة، نشعر من خلالها بحقيقة المنح الإلٰهي التي تتجلّى في المنح البشري، وان قيمة المنح ليست في الكمّ بل هي في صورته وقيمته.
ولقد بيّن الكاتب في قصة (بلا حاسوب) بعض كواليس الكتابة عندما تختلف الظروف والحاجات والوسائل تبقى الأهداف واحدة، كما تصوّر القصّة ما يمكن أن يواجه الكاتب من عراقيل قد تجري بآماله مجرى لم يكن يختاره، ومع ذلك يتأقلم معه ويمضي في صناعة أمله.
في قصة (خِتام) يواصل الكاتب تمرير رسالة المشيئة والقضاء، مصوّراً نظرة الناس القاصرة تجاه جنس المولود والاحتفاء بالذكر والاستياء من الأنثى، عندما جعل المولودة «خِتام» سادس أنثى يُرزق بها أبواها، وتذبذب إحساسيهما قبل الولادة وبعدها بين الرضى والفرح وبين نظرة المجتمع.
انتقل الكاتب من نظرة اجتماعية قاصرة إلى نظرةٍ أخرى، لكن في هذه المرّة مع قصة (سحابة دخان) التي تقدّم صورةً لتعلّق الكثيرين، ولا سيما الشباب، بذلك المجتمع والعالم الافتراضي الذي قد يفرض على الكثيرين أن يكونوا خِلاف ما هم عليه حقيقةً، وهو ما صار مع البطل الذي كان في دوّامة إدمان الفايس بوك، فحسب حتّى أمسى أسيرَ إدمان أصعب وأقوى وهو إدمان السجائر، فمن التظاهر بالتدخين في الافتراض، إلى الاحتراف على أرض الواقع.
وفي قصة (سعادة الوزير) تعاسة حقيقية، إذْ تحوّلت حرّيّة الأستاذ الجامعي المقرَّب من طلبته، إلى ممثّل سطحي يطبّق تعاليم عليا، دون إبداء نبرة الاعتراض أو الرفض، لأنّه ملاحق بأساليب تخنق حرّيّته وتحدّ من صلاحيّاته.
سحابة دخان أخرى مرّ بها بطل قصّة (شهادة) الذي توجّه مع الجار للإدلاء بشهادته، ليجد أنّ هذا المهوم غير ثابت، وأنّ الزيف يمكن أن ينقذ الكثيرين من المآزق، وأنّ الباطل يتجوّل في أروقة القضاء، والحقّ تُراقَب أنفاسه، ليقبض عليها في أيّ لحظة.
(صديق مركون) هي رسالة قصصيّة، أو قصّة رسالة حمّلها الكاتب بمشاهد يوميّة لعشاق القراءة والحريصين على الكتاب، لنجد فيها ذاته وحبّه لهذا الصديق المركون، ومدى لذّة التواصل معه، والتوغّل في ثناياه. ولقد ألبس النصّ ثوبَ النصيحة حتّى تعمّ قيمة القراءة لدينا جميعاً.
(قصة لم أكتبها) صاحبها قصّة كانت تحت الطلب الخيارات كثيرة، لكن ذات الناقد والمنتقد غلبت ذات الكاتب، بل إن ذات الكاتب لا تتحقّق إذا كانت رهينة التوجيه والفرض. القصّة إن لم تنبع من صميم صاحبها لتلقى احتضان الجمهور فهي قصّة كأنّها لم تكتب أساساً.
أمّا بداية أحدنا في الكتابة، فليست بالأثر الهيّن هذا ما نقله الكاتب عندما صور في قصة (لقد بدأتُ الكتابة) ذاتاً مبدعةً في حاجة إلى تحفيز وتقييم دائمَين، وقبل ذلك نقطة انطلاق صحيحة. ولقد منحت هذه الذات نقطة انطلاق جيّدة، لكن الشكوك وعدم الثقة ظلاّ يحومان في داخلها، غير أنّ الشخصية المبدعة في لحظة تكوين حقيقية احتفظت بالحافز الأوّليّ، وتخطّت عقبة الهواجس الواهية، لتقول لقد بدأتُ الكتابة والمشوار طويل.
قصة (وجبة شهيّة) قصة بسيطة المبنى عميقة المعنى، أشار فيها الكاتب إلى نظرت الإنسان للأشياء وعمقها، فحتّى الوجبة التي يتناولها واحدنا هي فلسفة جلاّد وضحية وغالب ومغلوب، وأنّ لكلّ شيء ثمناً، وأنّ الأثمان لا تعني دائماً القيمة.
قصة (وداعا صديقي) تعدّل مفاهيم اللغة والصداقة والحرّيّة وتكبيلها من خلال بطل صغير السنّ كبير الفكر يرى أنّ رهن حرّيّة طائر في قفص بعد موتِ شريكته التي كانت معه في القفص/السجن، جرم قاسٍ جدّاً، ولا متعة في رؤيةِ ذلك العصفورِ. فبعض من ألفناهم يسعدنا أن يعيشوا بعيداً عنّا إن كان في ذلك حياة هنيئة لهم، فالقرب بلا حياة موت بطيء.
(على دراجة هوائية) خاض ابنا العمّ رحلة وجولة ممتعة، الأجمل منها التوافق التامّ بينهما، رغم كل العقبات التي جاءت من بعض الاندفاع وقلّة التدبير، يريدُ أن يوصل الكاتب في القصة رسالة مفادها أنّ التفاهم الحقيقي هو سبب الوصول المحبّة، وأنّ نتيجته الوحيدة هي الإخلاص.
ينهي الكاتب المجموعة بقصة عنوانها (ازدحام) طريف ازدحام حياة الكاتب والمؤلّف بالعمل والبحث، ليقتحم هذا الازدحام بنوع من الفوضى العذبة، والتي تغيّر ملامح التعب إلى ملامح ضحك ودعابة. إنّها فوضى الحفيدين «بهجت» و«مريم»، وما يشحن حياة الجدّ الكاتب، ويجعل نهاية اليوم المتعب بداية عمر جديد وأمل في ازدحام مقبل.
لقد آثرتُ أن أمنح لقارئ مجموعة (صديق واحد) أن أتحدّثَ عن صديقي المقرّب، والذي باتصالي به وتواصلي معه، وتعرّفي به يجعلني أكتب عنه براحةٍ وودّ جميلين، فهو الكاتب والأديب السوري محمد بن يوسف كرزون المولود بتاريخ 19 مارس 1955 بحلب بالشقيقة سورية، وحاصل على شهادة الإجازة باللغة العربية وآدابها عام 1982 ، وقد اشتغل بمجال استصلاح الأراضي بسوريا منذ عام 1976 ، له إنتاج فنّيّ وأدبيّ غزير، نذكر منه تمثيلاً لا إحصاءً المجموعات القصصية (العودة المبكرة) 2005 ، و(الابواب المفتوحة) 2010 ، أذكرُ من الكتب كتاب (النجاح في العمل والدراسة)، الذي طُبِعَ طبعتين، ناهيك عن الروايات والمقالات الصادرة في مختلف مجلاّت الدول العربية، والأعمال القصصية المشتركة مع كتّاب من أقطار عربية عدّة صديقي محمد بن يوسف كرزون، بل أستاذي الذي صرت أنكر اليوم الذي أعيشه إن لم يكن له حضور فيه، شخص متميّز بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، لأنّه يحمل بداخله روح الشاب اليافع، يشرف بها على قلوب وعقول أجيال تحتاج إلى نسخ أخرى تشبهه، وأقول تشبهه لأنّه عملة نادرة، وحدث لا يتكرّر كثيراً. تمتاز كتاباته بالدّقّة والمرح والجدّيّة في آن واحد، يحسن استخبار ذات القارئ، لذلك نجح في أغلب ما قرأت له في التغلغل إلى ذاتي بنوعيها القارّة والناقدة، وقد فشل فقط في شيء واحد وهو إقناعي بأنه كاتبٌ قصصيٌّ تجاوز الستّين عاما من العمر، بل إنّي أراهُ في شبابٍ حقيقيّ، لأنّه لا يبتعدُ عن أدقِّ تفاصيل مشكلات الشباب وكأنّه واحدٌ منّا.
إنّني اطلب من كاتبنا الكبير أن يضيف إلى إنجازاته السرديّة قصّة ورواية أن يفعّل دورة فئة ذوي الاحتياجات الخاصّة من مكفوفين وصم.. حتى تصل للآخَر صورة أنّهم قادرون على ان يمارسوا حياتهم بصورة عاديّة تماماً.
وفي النهاية كانت فرصة رائعة أن أضع لمستي البسيطة على ابداعات كاتبنا في انتظار انجازات جديدة وواثقة انا من ذلك بإذن الله فلقد عهدت صديقي نشيطا غزير الابداع القارئ شريكه الذي يحملها مسؤوليات جمة يسعى لتحقيقها ما استطاع لذلك سبيلا
ونرجو في الختام أن تصل رسائل هذه المجموعة القصصية صديق واحد للكاتب محمد بن يوسف كرزون وتحقق غاية الامتاع وتأطير الذات للقراءة بمختلف مستوياتهم واعمارهم.