كتابة الموت
( وجهة نظر )
…
ونحن نكتب رغبتنا في الحياة إنما نكتب موتنا باستمرار. هذه مفارقة عجيبة لكنها كائنة شئنا أم أبينا، ولا أحد ينفلت من عضويته فيها بصورة أو بأخرى. وهي عضوية لا تشريف فيها ولا تسييد ولا تنقيص، فالموت هو أعدل مخلوق خلقه الله على وجه البسيطة.
لكن الحديث هنا لن يكون واعظا حكيما يمتلك الوصايا الكفيلة بالانتصار القيمي على الموت، وإنما غرضنا بيان كيف تتورّط الكتابة في فعل الموت وهي لا تدرك ذاتها المورَّطَة.
ما معنى الكتابة إن لم تكن حرصا على تسويد الوجود الشخصي والجمعي معاً والتأريخ لهما ؟ ما معنى الكتابة إن لم تكن حرصا شديدا على تبويب الحياة الشخصية داخل خانات إبداعية مفتوحة على الآخر كي يقرأ وشمها الغابر والظاهر وبالتالي يقرأ خوفها وأمانها معاً .
أن أكتب الحياة معناهُ أنني أكتب بدايات كوني المصغّر ، سواء نثرتُ أم شعرتُ أم مسرحتُ أم رويتُ أم شكّلتُ أم رقصتُ أم مثّلتُ أم نحتتُ أم ، أم ، أم … إنني في كل هذا أكتبني بدءاً وأكتبني نهايةً، ومعنى ذلك أنني عندما أكتب البداية فحتما يسكنني شرط النهاية، ويؤرّقني حدّها المسلّط على رقبتي مثل سيف ديمقليطس، ويعنّفني حضورها المتواري خلف جُدُر البدايات المختلفة والمتعددة والراقصة احتفالاً بهذه الحياة.
إنني وأنا أكتبني بدايةً أمارسُ طقوسي منذ الولادة إلى الموت، منذ الصرخة الأولى المغادرة للرحم، إلى الصرخة الأخيرة التي تمارسها قريبةٌ من أقاربي. هذه الطقوس التي أبنيها كتابةً عبر النوع الأدبي الذي يختارني، هي أشبه بالرقص على نارٍ، بحيث و أنا أرقص \ أكتب، تتبدى لي تلك الظلالُ المتحركة المنعكسة لأجسادي المكتوبة. ولكنها ليست كذلك، إنها ظلالٌ لا للأجساد الحاضرة فيّ، وإنما هي ظلالُ التأويلاتِ الممكنة لكتاباتي الموحَّدة في المعنى، المتعددة في التأويل.
إن كل ظلٍّ هو جسد، وكلّ جسد هو نصّ كُتبَ لينتهي، ليلفظ أنفاسه الأخيرة في اللحظة التي انبثق فيها مولودا جديداً ، والجديدُ هنا أضعه بين قوسين، إذ ما إن يخرج من قناعتك باحتضانه عن عيون القراء إلا ويصبح قديماً حتى ولو كان عمره دقيقة أو دقيقتين بعد الخروج أو النشر. مثله في ذلك مثل الزمن، فلا حق لنا في وصف الحاضر بالحاضر المطلق، إذ ما إن تمر الدقيقة الأولى على قولنا بالحاضر إلا ويدخل هذا الأخير في عرف الماضي قياساً للحظة الحاضرة المتجددة التي أنا فيها الآن .
هنا نستطيع القول إن الجسد \ النص يموت حال خروجه من رحم المبدع، وبالتالي فهو يكتب موته أثناء كتابة الحياة ذاتها. وكلّ إبداعٍ خرج من قبضة المؤلف إلى قبضات القرّاء يصبح إبداعا قديما، أي ميّتاً وهو في قمّة الحياة، لأن صاحبه يفكّر مباشرة في العمل الثاني الذي يُنسيه العمل الأول، وفي الرابع الذي يلهيه عن الثالث … وهكذا دواليك … تتمّ العملية في لعبة وجودية تستلذّ قبضتي الحياة والموت معاً.
وحتى لا نكون مقاربين جزئيين في غير إنصاف، نقول، إن العمل الإبداعي الذي وسمناه بالموت حال خروجه من عرين صاحبه، يملك القدرة الزئبقية على الحياة و الانبعاث، وعلى التجدد الدائم وعلى التواري والتخفي أيضا، وذلك تبعا لطبيعة قارئه لا لطبيعةٍ فيه، إن القارئ هو من يضخ أسباب الحياة في الكتابة المشَرّحة أمام ناظريه، وهو من ينفخ فيها روح الحركة، وهو أيضا من يبثّ فيها سموم الجمود والسكون، إذا ما تعامل مع الكتابة الغيرية بالإهمال والترك، وهو تركٌ لا يقتل الكتابةَ بقدر ما يقتل وضعها العابر بين يدي هذا القارئ المهمل. أما هي فحيّةٌ بطبيعتها ميّتةٌ بطبيعته، حيّة بالقوّة في ذاتها، ميّتةٌ بالفعل في ذاته.