رواية الفضيحة الإيطالية في حلقات
(3)
قلت للموظف أنه لابد أن هناك شيئاً ما يمكن أن أشاهده وأتسلى به حتى يحين موعد الفيلم، لمح في كلامي إصراراً مفاجئاً: استسلم قائلاً أن قاعة السينما -على أية حال- مفتوحة وأنني يمكنني الانتظار فيها.
لم أنتظر، ظللت أتسكع في الردهات، أتوقف أمام “بوسترات” الحفلات الموسيقية وأعيد قراءة البيانات الخاصة بالفيلم المطبوعة في بوستر أنيق. أطيل التأمل في أسلوب تصميم المبنى المعتمد على الأقواس والنوافذ الصغيرة الضيقة وشغل الأرابيسك والسقف العالي والأعمدة البيضاء.
فكرت أن هذا التصميم مأخوذ من العمارة الإسلامية وأن كثيراً من الهيئات الأجنبية تقدم على ذلك الآن بعد تنامي ما تعتبره “اتجاهات راديكالية معادية للغرب” في مصر حتى لا تبدو -على مستوى التصميم المعماري على الأقل- غريبة عن المجتمع المصري.
لم يشعرني هذا بالارتياح.
عدت أفكر في أن الأسقف العالية -بالذات- تقليد تاريخي لم أحبه أبداً في بناء دور العبادة منذ الفراعنة.
وفجأة وجدتها أمامي.
عيونها الواسعة الجميلة مليئة بالحزن رغم ابتسامتها المرتبكة وهي تقول بإنجليزية رديئة:
- عذراً، ولكنني عرفت من مستر أحمد -البك الموظف- أنك تنتظر الفيلم، هذا يعني أنه ما يزال لديك 30 دقيقة، ولهذا فكرت في أنك ربما ترغب في مشاهدة معرضي.
- يسعدني هذا كثيراً.
أحدثت خطواتنا على أرضية الباركيه في الدور الثاني، أصواتاً مزعجة.
- آسفة، فالمكان كما ترى غير مجهز لاستقبال الجمهور.
وهزت رأسها في حسرة.
- الحق أنني لم أر جمهوراً منذ الافتتاح أول أمس.
كان المكان معتماً.
أشعلت أحد الأنوار، أدارت المفتاح في باب القاعة ثم أشعلت جميع الأنوار، وما إن وقفت أنا أمام الصور المعروضة في المقاسات المعتادة للوحات التشكيلية حتى هتفت فوراً في سري: “يا بنت الإيه!”.
إذ يقوم فن التصوير الفوتوغرافي على فكرة في غاية البساطة هي السكون. اقتناص لحظة حية وتثبيتها في إطار خارج حدود المكان والزمان. غير أن أول ما يخطف الدهشة من عيونك في تلك اللوحات هو هذا الإيحاء القوى بالحركة المراوغة!
خُف الجمل يعلو ويهبط في حركته الأبدية على الرمال.. دخان الشيشة يصنع حلقات وخطوطاً في الهواء.. النسوة في أزقة دمشق القديمة أكاد أسمع رنة خلخالهن.. والحركة في هذه الصور المأخوذة بالأبيض والأسود لا تتم بمنطق الواقع الصاحي، بل بمنطق الأحلام. الانتقال الهادىء المسترسل للمادة وكأن الوجود ليس سوى مشهد سينمائي طويل تم تنفيذه بالتصوير البطيء، والأشخاص في الصحاري والمقاهي الشعبية ليسوا أشخاصاً بل أفكاراً حنونة تغفو في الخلفية على هيأة ظلال بلا ملامح. تمنيت من كل قلبي أن يكون هذا هو العالم الذي أعيش فيه، عالم بلا ألوان، يختفي فيه اللمعان المصقول لكتالوجات موضة الشتاء، وتصاب داخل أسواره تجارة بطاقات شحن الموبايل بالكساد، ويَمل ضمن حدوده موظفو الأمن من استقبالي يوميا بابتسامة عريضة منافقة وأنا أخطو إلى مكتبي في المؤسسة الضخمة ذات القلب الرخامي.