حفريات في الذاكرة (د) 2 __ ذ. سمير البوحجاري

0
220

“حفريات في الذاكرة (د) 2 ” :

رائحتان لا أنساهما ما حييت؛ رائحة ميناء العرائش ونحن ندنو منه شيئا فشيئا، وأريج (د) عند كل تعقب.

وإن نسيت فلن أنسى تلك البسمات؛ فاتحتها كانت ذات إشراقة صباحية مفعمة بخجل؛ كنت حينها معلّقا في الرواق الأعلى بجينز أزرق وحذاء رياضي وقميص مخطط ناصع البياض وساعة يد سوداء. وكانت (د) متأبطة غنجها محفوفة بصديقاتها تندلق من الأدراج كشفق أحمر أو كنسمة لطيفة. وحدث لوهلة أن أشحت بوجهي عنهن وحينما أرجعت البصر ضبطتها في لحظة ارتباك تاريخي تسحب بخفة سبابتها -التي أشارت إلي- وتبقي على ابتسامة أنيقة مرتبكة أصابتني بلوثة العمر كله. لقد كانت بسمة الاشتباك الأول؛ الفارقة القاصمة الماحقة الساحقة التي لها ما بعدها.. لقد كانت البسمة ذات التبعات… لقد كانت البسمة ذات الخفقات… لقد كانت “البسمة”.. وكفى.

وألفيت الثانية خلف زجاج نافذة سيارة والدها البيضاء؛ بسمة شوق وزهو وإغواء لم يحجبها رذاذ رومانسي بل زادها رونقا وبهاء بينما أغرقني ذات الرذاذ في المجهول..

وأما الثالثة فكانت إثر مباراة كرة وكنت بمعية رهط من الأوباش عار من كل ما يستر العورة اللهم سروالا قصيرا وقميصا كنت أهم بارتدائه، وفي لقطة لا أدري أكانت عفوية عشوائية أم بترتيب إلاهي رفعت بصري نحو الأعلى حيث (د) معلقة في السماء ترقب عريي بابتسامة وردية خجلى؛ ولكم شعرت حينها بفخر أسطوري غمرني -كموجة صيف عاتية- من أخمص قدميّ الحافيتين إلى غرتي الشقراء المتعرقة وإني لابتسمت محاكاة ل(د) حتى بدت نواجدي وإني لابستمت لها إلى أن اختفت حياء وفضل وجهها مرسوما في القمر ولا أدري إلى اليوم كيف حل القمر ساعتها قبل أوانه (أتذكر)..

وكانت الرابعة و(د) قاب قوسين أو أدنى؛ برداء شبقي أحمرَ أماطت من خلاله اللثام عن بعض مواهبها في الإغراء وهي تمضغ تلك العلكة الوردية التي لم يخلق مثلها في البلاد، وتصفف شعرها الأسود إلى الخلف براحتها الناعمة الكريمة، وتخرج لسانها بعفوية وتسحبه كفراشة وإن كنت أشك إن كان أصلا للفراشة لسان. وكانت بسمة إغراء حمراء لا محالة حتى أني قرأت فيها ال(هيت لك) وكدت أنقض على شفتيها بقبلة لولا (خبز أمي وقهوة أمي) وبقية من حياء ووقار وقرا في قلبي.

وبين كل تلك البسمات وإثرها أخرُ بذات العناوين أو بعناوين مختلفة قليلا؛ إحداها عند عتبة منزلها والأخرى في الزقاق الذي انتميت إليه ردحا من عمر، والثالثة في زقاق حقير آخرَ هالني أن تصطفيه للعبور (د) وأمها ذات الفم الدقيق والرموش المتغطرسة الشامخة، والرابعة على إيقاعات تراتيل نضال والخامسة خلف نظارة سوداء التهمت ربع محياها ما عدا تينك الشفتين المقدستين والأذنين المرهفتين ذواتي القرطين المستديرين، والعاشرة والعشرون…

وإني في كلها-تلك البسمات- استحلت خفقة عشق لافح لاذع، وازددت تعلقا بأهذاب (د) كرضيع يأبى غير ثدي أمه الرؤوم.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here