رواية شيشنق (7) – أحمد حضراوي

0
228

 

أدلف الخطى نحو عالم الخضرة والماء والورق، ونحو سنين الحكماء التي تكللت بلحاهم البيضاء الناصعة تماما كحللهم بذات اللون أيضا، حلقة هنا وحلقة هناك، وحكيم يتوسطها يحدث مريديه بلسانه وحركات يده التي تكاد تبلغ عنان السماء، حين يبالغ في رفعها أحيانا لإقناعهم بفكرة ما. تأمل ارتفاع البنيان الجميل الذي تحلق حول هؤلاء الحكماء ومريديهم، وكأنه اكتسب حسنه من شدة ما أصغى إليهم، وهم يسترسلون في بسط علمهم الناصع لكل من قصدهم وحج إليهم.
– ما زلتَ تتأمل البنيان منذ وصلت أثينا، وتتأمله أكثر حين دخلت محفل الحكماء!
جاءه صوت أحدهم من خلفه، التفت نحوه فأحس بسكينة مفاجئة تنتاب نفسه وفكره، كيف لا وكل علامات الحكمة والمعرفة حلت بهذا الرجل المسن الذي يشرح قلب كل من نظر إليه بابتسامته الرحبة وسمته العالم.
– سيدي.. -حياه شيشنق-.
– يمكنك أن تناديني بــ: فيلوسوفيوس -أجابه الحكيم-.
– سيدي الحكيم الأعظم فيلوسوفيوس، كم أنا سعيد بلقائك أخيرا، وكم أنا آسف على تأخري عن حضور درس افتتاح المحفل -بادره شيشنق-.
– لا عليك شيشنق، منذ أن سمعت بنزولك بخان المصريين، توقعت لك أن تمر بكل مكروه -مازحه فيلوسوفيوس-.
وضع يده اليمنى على كتف شيشنق اليسرى، ثم رحب به ضاحكا:
– منذ الآن أنت ضيفنا، وقد جهزنا لك مكانا يليق بك.
– سيدي، لكن كيف عرفت اسمي وسبب قدومي إلى هنا، وكيف عرفت بأمر نزولي بخان المصريين؟ -تعجب شيشنق-.
ابتسم فيلوسوفيوس مرة أخرى ابتسامته المطمئة:
– أهلا بك في أثينا.
* * *
فتح جعب رأسه وكهوف ذهنه لشمع الأفكار التي انهالت متدفقة عليه خلال ساعات الدرس المتتالية لأيام وشهور، أفكار تغوص به في عوالم الميتافيزيقا والماوراء وراء، لكنها لم تفتح شهيته بعد على سر هذا البناء الماثل أمامه، والمتمثل في كل أروقة هذه العروس الممددة ضفائرها على أكتاف هذا البحر الأزرق الجميل.
يوم آخر من الدرس، ويوم آخر من التساؤلات، غريب هذا العلم الذي ليس سوى أسئلة متكررة متعمقة متفرعة، تدور في حلقة الزمن لتعود دائما بسؤال، كيف استطاع هؤلاء الإغريق المحاربون أن يرفعوا هذا الجمال إلى جانب السيوف التي قهروا بها أعداءهم ظلما أو خدمة لرسالة العقل كما يزعمون، ويجعلوا من صدى صليل السيوف وصدى طرق المطارق نغما يسري بفكرة إلى هذا العالم الممتد؟ تساءل بصوت مرتفع!
– لأن الفكرة لا تصيبها عوامل التعرية يا شيشنق.
التفت إلى فيلوسوفيوس، الذي قرأ في عينيه ذلك الصراع بين الفكرة والصخرة، الصخرة التي قد تصمد لآلاف السنين لكنها ستتحول إلى أصلها الأول، إلى حبات رمل طال بها العمر أو قصر. والفكرة التي قد تصبح عقيدة لا تنسلخ عن الصدور التي تنقلت منها إليها عبر أجيال وأجيال.
– ما زلت أسأل عن علاقة هذا الصخر بالساعد والقلب والفكرة! -سـأل شيشنق-.
– شيشنق يا عزيزي، كل شيء ابتدأ من السهل والرمل، أنظر إلى ساحل أثينا الممتد، ما زال يتجاوب مع الرمل والماء لتتولد الفكرة التي تصبح ساعدا يرفع ما رأيته أمامك، الفكرة هي وحدها من يجعل الصخر بناء لكن بأي قلب؟ في أرض القبط، الرمل أيضا يصارع فكرة الصخر العذب المتفجر من الجنوب، بهنينسو أو بالجيزة، لكن الفكرة حرة، لذلك لا يمكن أن يرفعها إلا أحرار.
“أبرامُ” قبل مئات الأعوام أمره ربه ببناء بيت حجري أيضا، يقال إن أنبياء العبرانيين حجوا إليه جميعا، وهو بناء ارتفع أيضا بحجارة على الرمل لكن بفضل الماء فقط، لقد ارتفع لأن بئرا انفجرت لصراخ طفل ظامئ -بسط فيلوسوفيوس-.
– الماء الرمل الصخر الفكرة والحرية، أدركت بعض هذه المعاني في مصر، لكن الفكرة هناك تستعبد دائما السواعد سيدي؟ -سأل شيشنق-.
– غير صحيح، نحن بالمحفل الفلسفي هنا تدارسنا هذه الخيم الحجرية منذ زمن، ومعلوم أنها بنيت من طرف من ناسبت سواعدهم حجمها، هم عرب أهلكتهم الريح لأنهم لم يستمعوا لنصح نبيهم لا غير -قال فيلوسوفيوس-.
– نبيهم؟ -سأل شيشنق-.
– الحقيقة يا ولدي، الحقيقة التي نبحث عنها جميعا، مشاربها متعددة لكن وجهها واحد، هو المطلق لا غير، قد تكون في الماء، قد تتجلى في الصخر، قد تكون أنت، قد تكون في ذلك البيت الحجري في الصحراء، وقد تكون مجرد سفسطة فيلسوف خرف مثلي أنا ههههه – أضاف فيلوسوفيوس-.
– إذاً كيف ينطق الصخر بين جلد الماء وصبر القلب؟ -سأل شيشنق-.
– بالتناسب يا بني، بالتناسب -أجاب فيلوسوفيوس-.
انطلق الفيلسوف -وقد ربت على كتف شيشنق كعادته بيده- نحو تلامذة آخرين، ربما انتظروا منه جوابا على مسائل أخرى فلم يزدهم إلا سؤالا على أسئلتهم، كانت حيرة عيونهم هي حيرة عين شيشنق نفسها، وقع الكلمة مازال يؤرق أذنيه ويحرك بنصر يمناه ليدور دورته على مواطن الماء والصخر بجسده، ما بال تلك الجراح تشرئب كلما مر بها حديث أو مرت بها ذكرى؟

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here