“كليلةٌ ودِمنةٌ” :
مما لا يختلفُ فيه اثنان، ولا ينتاطح فيه عنزان: أنّ كتاب “كليلة ودمنة” يُعدُّ من أهمّ وأعظمِ كتُبِ التراث التي بلغت في أهميّتها الأدبيّةِ وتوليدِ ذائقةٍ بيانيّةٍ، وإكسابِ قُدرةٍ وملكةٍ بلاغيّةٍ، وتزويد القارئ بطلاقةٍ في اللّسان ما لم يبلغ سواها من كتبٍ أدبيّةٍ، وذلك لجَمعِه بين الحكمةِ والفلسفةِ، ومعالجة مشكلاتِ الإنسان مسلمًا كان أو غيرَه صغيرًا كان أو كبيرًا بطريقةٍ غيرِمباشرة، وهذه هي النّقطة الرئيسة التي خلّد الكتابَ وصاحبَه في مدرسة الأدب منذ تأليفه إلى يومنا هذا.
*مؤلف الكتاب:*
هو بيدبا الفيلسوفُ الهنديّ الذي ألّف هذا العمل التاريخيّ المجيد للمَلِكِ دبشلم باللغة السّنسكرتيّة -لغة سائدة في الهند قديما-، وأسماه ب”بنج تترا”أي: الفُصُول الخمسة، ثم نقله إلى اللغة الفارسيّة الطبيبُ الحاذقُ باردويه الذي أرسله كسرى فارس أنو شيروان إلى الهند.
*قصة الكتاب:*
إنّ الإسكندرَ المقدونيَّ عندما غزا الهند، واستولى عليها، عيّن أحدا من أتباعه حاكمًا عليهم، ولكنّهم أبَوا قيادتَه، ولم يعتبروه أهلًا للرّيادة، وصالحِ بناء المجتمع، وأصرُّوا بأن يسُودهم دبشلم الحكيم الهندي؛ فبعدما امتلك دبشلم زِمامَ الحكومة الهنديّة، بدأ يتغافلُ عن حفظ عهدِ رعيّته، وتجاهلَ أمنَ وسلامةَ دولتِه، بل تحول من سعادَةٍ إلى شقاوةٍ، ومن عدلٍ إلى ظلمٍ، ومن أمنٍ وسلامٍ إلى فوضى وانتشارٍ؛ فنظرا إلى مواقفه الحرِجةِ نصحه بيدبا الفيلسوف الهندي نصيحة أخٍ لأخٍ، فحبسه في السجن وما أصدق ما قالته العرب قديمًا: اتق شر من أحسنت إليه، ولم يلبث إلى أن ندم على ما فعله من التصرّف القبيح، والفعل الشنيع، فأطلق سراحه، واتّخذه مستشارًا له، وطلب منه أن يؤلّف له كتابًا فيه حكمةٌ وموعظةٌ، ونصيحةٌ وإرشادٌ فكتب له كتابَ: كليلة ودمنة الذي نحنُ بالسّبيل إليه..!
*مترجم الكتاب:*
نقل الأديبُ العربيّ الكبير عبد الله بن المقفّع فارسيّ الأصل، عربيّ المولد والنّشأة من الفارسيّة إلى العربيّة بجودةٍ عاليةٍ وصورةٍ فائقةٍ بلاغيّةٍ، مع إضافة قصصٍ وحذفِ أخرَى في العصر العباسيّ في القرن الثّامن بكل مهارةٍ وجدارةٍ.
فلم تمض إلا أيام قلائل نفِدتْ النّسخةُ الهنديّة والفارسيّة من المكتبات، ودُور النّشر، وحتى من أيدي القرّاء الأكارم؛ بجمال عباراته العربيّة، وحسن تعبيراته الأخّاذة، ورشاقة كلماته، وحسِب الناسُ جميعًا بأنّ الكتاب ألف بالضاد، فهذا وإن دل على شيءٍ فإنما يدلّ على عبقرية ابن المقفّع في الأدب، وتمكنّه التّام من الإنشاء والترجمة والتأليف وفنّ المقال والتّعبير..
*منهجُ المؤلّف في كتابه:*
اتخذ صاحب الكتاب الطيور والحيوانات شخصية رئيسة ترمز إلى شخصيات بشرية تهدف إصلاح المجتمع أخلاقية ، إصلاحية، سياسية، فكلمات الطيور مليئة بالحكمة، والموعظة، والإرشاد، والتوجيهات النافعة، والملاحظات القيمة.
*نماذج من الكتاب*:
ونظرًا إلى مكانة هذا الكتاب الجليلة بودّي أن أسردَ هنا نماذجَ وأمثلةً بالغةَ الدّقة والحسن الأدبي الذورة العليا من الكمال فقال دمنة: إن اللّئيم لا يزال نافعا ناصحا حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل، فإذا بلغها التمس ما فوقها، ولاسيما أهل الخيانة والفجور، فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان، ولا ينصح له إلا من فرق، فإذا استغنى، وذهبت الهيبة، عاد جوهره كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم، فلا يزال مستويا مادام مربوطا، فإذا حلّ انحنى، واعوج كما كان.
يا نفسُ، انظري في أمرك، وانصرفي عن هذا السّفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإيّاكِ والشّر، واذكري: أن هذا الجسد موجودٌ لآفات، وأنه مملوءُ أخلاطا فاسدةً قذرةً تعقدها الحياة، والحياة إلى نفادٍ كالصنم المفصلة أعضاءهاإذا ركبت ووضعت، يجمعها مسمار واحد، ويضم بعضها إلى بعض، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت الأوصال.
قال الملك: أيها الوزير الصالح كيف كانت سيرة البوم وملكها في حروبها ،وفيما كانت فيه من أمورها؟؟
قال الغراب: كانت سيرته سيرة بطر وأشر، وخيلاء وعجز وفخر، مع ما فيه من الصفات الذميمة، وكلّ أصحابه ووزرائه شبيهٌ به إلا الوزير الذي كان يشير عليه بقتلي، فإنه كان حكيمًا أريبا، فيلسوفا حازما عالما، قلما يرى مثله في علو الهمة، وكمال العقل، وجودة الرّأي .
قال الملك: وأيّ خصلة رأيت منه كانت أدلّ على عقله؟:
قال الغراب :إحداهما رأيه في قتلي، والأخرى أنه لم يكن يكتم صاحبه نصيحته، وإن استقلها، ولم يكن كلامه كلام عنف وقسوة، ولكنه كلام رفق ولين حتى إنه ربما أخبره ببعض عيوبه، ولا يصرح بحقيقة الحال بل يضرب له الأمثال، ويحدثه بعيب غيره، فيعرف عيبه، فلا يجد ملكه إلى الغضب سبيلا.
فهذه وتلك إنما هي نماذج رائعة قدّمتها إلى القرّاء استمتاعًا بهذه التحفة السّنيّة الأدبيّة الخالدة التي عزّ نظيره في مدرسة الأدب والبلاغة.
وبالجملة: فإنّ كتاب: كليلة ودمنة ممّا ينبغي دراستُه بصورةٍ منتظمةٍ مستقلّةٍ مع التركيز الكلي الشمولي؛ لنقدّم لأبناء جيلنا الأدبيّ صورًا تربويّة بحلّة أدبيّة، وبهذا نكون قد أدّينا بعضَ واجبنا الذي حملناه على عاتقنا منذ أن تولينا مناصب التدريس والتعليم.
فهذه تمنياتي؛ فياليتَ شعري! هل بلغتُ ما أحلم به؟!
اللهم إن أحييتنا فوفقنا لما يرضيك، وإن توفيتنا فعلى دينك، واكتب لنا بكرمك العفو والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون.
______________
ذ. ضياء الحق عبدالأحد
أستاذ بالجامعة البنّورية العالمية