الضُرة، جمع ضرائر أو ضُرات. والضُرة تطلق لغة على “امرأة زوجها” لما بينهما من المضارة، وكنت أعتقد أنها تنتمي للعامية المصرية، قبل أن أقف على أنها مفردة عربية فصيحة، وإن كانت الدارجة أسقطت المثنى، فصارت زوجتا الرجل “ضرائر”، ومن هنا جاء قول “كيد الضرائر”!
ولم يتبق لانتقال مصر من “الدولة المعيلة” إلى “الدولة الضُرة”، إلا إقرار مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، الذي من المقرر أن يصدر هذه الأيام، كـ”عربون محبة” للرئيس الأمريكي الجديد، لعله يرضى، ويعلم أن الجنرال يقف على ثغرة من ثغور الحداثة، وأنه يقاطع الرجعية الدينية وكل ما ينتمي لها بصلة!
كانت مصر قد تحولت في خطاب السيسي إلى “الدولة المعيلة”، التي يطلب من المصريين التبرع لها ولو بجنيه، ويقدم نفسه على أنه حام لها من تقلب الزمان، ويطلب من عموم الناس الوقوف بجوارها “بصحيح”. و”المرأة المعيلة” هي التي مات بعلها وترك لها ذرية ضعافاً تقوم على خدمتهم وتربيتهم، وقد امتنعت عن الزواج كما امتنعت عن أن “تعيش حياتها،” فهي في الأدبيات الشعبية “المرأة المكسورة”؛ ليس لـ”كسرة النفس”، ولكن لأنها “مكسورة على تربية أولادها”، مع العوز والحاجة!
وعند إقرار قانون الأحوال الشخصية، بوضعه الحالي، تكون مصر قد انتقلت إلى مسمى وظيفي جديد، وهي “المرأة الضُرة”، فعند الزواج الثاني – لمن استطاع إليه سبيلا – يكتشف هذا القادر أنه لم يتزوج على زوجته، ولكنه تزوج على “مصر” وجاء لها بـ”ضرة” على النحو الذي سنوضحه بعد قليل!
الطلاق للضرر:
قانون الأحوال الشخصية الحالي ألزم الزوج بإبلاغ زوجته عند زواجه الثاني، فإذا لم توافق له على ذلك، كان لها حق طلب الطلاق للضرر، وما يترتب على ذلك من آثار؛ أخصها أنها تحصل على حقوقها كاملة غير منقوصة، وأن تتمكن من التطليق السريع، لأن قضايا الطلاق للضرر تظل في المحاكم لسنوات طويلة، من أجل إثبات هذا الضرر، ونوعه، وحجمه، ومقداره. فمجرد إثبات الزواج الثاني للزوج يحسم الدعوى في جلساتها الأولى.
ويتسم المصريون إزاء التشدد التشريعي بأنهم أصحاب حيل، فكل “عُقدة ولها حلاّل”، وتحتاط السلطة في تشريعاتها من الثغرات، لكن الشعب له حيله وطرقه في التعامل مع هذا التعسف، فكانت البداية بإبلاغ “المأذون” بعنوان قديم لـ”عش الزوجية” الخاص بالزوجة الأولى، ثم كان الانتقال إلى ما هو أكثر فداحة من هذا الالتفاف، بأن يتم تطليق الزوجة الأولى قبل عقد القران على الثانية، ثم إعادتها إلى عصمته، وكل هذا دون علمها، مع علم الزوجة الثانية أنها “ضُرة”، فلم يكن المأذون – بالتالي – ملزماً بإبلاغ الزوجة الأولى، فقد طلقت!
وإن كان يؤتى المرء من مأمنه، فقد بالغ أحد الأشخاص في خلق “فاصل” زمني معقول بين تطليق الزوجة الأولى وردها، وربما نسي لا سيما وأن الأمر كله على الورق، فكان هذا “الفاصل الزمني” أزمة بالنسبة له، عندما علمت زوجته الأولى بزواجه الثاني، فأرادت أن تستخدم حقها القانوني ضده، فكان أن قدم وثيقة تطليقها قبل عقد زواجه بالثانية، ومن هنا أمكنها أن تثبت أنه “جامعها” في فترة الطلاق دون علمها بوقوعه، وذلك بحساب فترة حملها منه!
وعندما استمعت للواقعة منه، قلت إنها تصلح قضية في مسلسل درامي، لكن حكايته – في تقديري – تمثل الاستثناء لا القاعدة، لتعايش المصريين مع القوانين وتسلطها!
قانون جباية:
ومن هنا فشرط إعلام الزوجة الأولى ليس جديداً كما يروج البعض، لكن الجديد في مشروع القانون الذي تم الدفع به لمجلس النواب، هو العقوبة المقررة عليه، والتي وصلت للحبس في حال عدم إخطار الزوجة الأولى بالزواج الثاني، وهي عقوبة مقررة في أكثر من موضع في القانون على نحو يوحي بأنه قانون عقوبات، وليس قانوناً لتسيير الحياة الزوجية!
وهذا ليس الموضوع؛ فبجانب الحبس ألزم مشروع القانون “الجاني” المرتكب لجريمة عدم إعلام الزوجة الأولى بزواجه والحصول على موافقتها؛ بعقوبة أخرى وهي دفع غرامة خمسين ألف جنيه، تصب تلقائياً في “خزينة الدولة”، ليمثل هذا القانون واحداً من قوانين الجباية، والتي لم تبدأ بقوانين المصالحة في بناء العقارات بدون ترخيص، ولن تنتهي – بطبيعة الحال – بقانون تسجيل العقارات في الشهر العقاري، وما تضمنه من إلزام بدفع غرامات مالية باهظة لصالح الدولة!
وكان منطقياً أن تدفع الغرامة المالية للدولة فلا تزال هنا هي أمّنا مصر، أو “الأم المعيلة”، لكن وضعها الوظيفي تطور مع مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، لتصبح “الضُرة” لعموم المتزوجين بثانية، أو من في نيتهم ذلك، فهي التي تحصل على الغرامة وليست الزوجة المضارة من جراء ذلك فعلا!
ومن هنا يكون القانون في حال إقراره قد ضرب عصفورين بحجر، فمن ناحية مثّل رافداً لجمع الجبايات من الناس، فلا يوجد أمام السيسي من سبيل إلا أن يضع يده في جيوب المصريين للاستيلاء على ما فيها، و”التفنن” في ذلك، ومن ناحية أخرى حتى يدغدغ به المشاعر الجياشة للخواجة بايدن!
ومنذ عهد الرئيس السادات فإن دغدغة المشاعر الغربية تكون بتبني حرم الرئيس لمشروع جديد للأحوال الشخصية، يعطي المزيد مما تعتقد أنه حقوق المرأة، فكان قانون جيهان السادات، وقبل عشرين عاماً كان قانون سوزان مبارك، لكن السيسي هو من يتصدر المشهد، وليست زوجته، مع خلاف هنا هو لصالح العهدين السابقين!
فقانون الأحوال الشخصية الذي ينظم الزواج والطلاق للمسلمين في بلد عربي ومسلم، لا يمكن إلا أن يكون قانوناً دينياً، ينطلق من الشريعة، ومن قواعد الفقه، وإن كان المذهب الرسمي المصري هو المذهب الحنفي، فلا مانع – من وجهة نظري – من أخذ الأيسر من المذاهب الأخرى، وهو ما كانت تسلم به الأنظمة السابقة، فكان اللجوء للأزهر، فيضع هذه القوانين أو يراجعها. وكان دائماً هناك رأي ديني مخالف لتوجهات السلطة وشيوخها، لكن في البداية والنهاية فإن الأزهر بشيوخه كانوا حاضرين باعتبار قانون الأحوال الشخصية شأناً ينظم زواج المسلمين.
ولأنه كذلك فإن التشريع لدى الطوائف الدينية الأخرى هو من اختصاصها وليس من اختصاص الدولة، رغم ما أنتجه تشدد الكنيسة الأرثوذكسية من مشكلات، نالت من الحقوق اللصيقة بالإنسان، فلا تعترف الكنيسة بالطلاق القضائي، الذي يستند إلى لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين التي وضعها المجلس الملي في سابق العصر، وتريد الكنيسة الأرثوذكسية تغييرها لكنها تصطدم بموقف المذهبين الكاثوليكي والإنجيلي!
فالكنيسة الأرثوذكسية لا تعترف سوى بالطلاق لعلة الزنا، أما الكنيسة الإنجيلية فعندها ثمانية أسباب موجبة للطلاق، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية ترفض الطلاق تماما ولو لعلة الزنا!
وفي سبيل إرضاء البابا شنودة بعد تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، وكانت قناعة البابا أن الأمن هو من فعلها، أعطى الرئيس مبارك للبابا امتياز تعديل قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين مع إشراك الكنائس الأخرى. وشُكلت لجنة لذلك، ولهذا الامتياز لم يكترث البابا بانسحاب ممثل الكنيسة الإنجيلية من هذه اللجنة، لكن الثورة قامت، والقوم لم يحسموا خلافاتهم!
بعد الثورة تفجرت لأول مرة للرأي العام أزمة رفض البابا للزواج الثاني لمن طلقوا زوجاتهم قانوناً وواقعاً، عندما تظاهروا أمام الكنيسة ويقدرون في بعض التقارير الصحفية بثلاثين ألف شخص!
ولا تتحدث الدولة عن هؤلاء، لأنها تؤمن بأن القانون ديني في المقام الأول، لكنها في الحالة الحالية تتعامل على أنه قانون يمكن للسلطة أن تقره بعيداً عن الأزهر، لأن المؤسسة الدينية الرسمية لن تجاريها في أهدافها، ليكون هذا هو قانون الأحوال الشخصية الأول الذي يتم إعداده بعيداً عن الأزهر الشريف، وبالمخالفة للدستور، الذي جعل مثل هذا القانون يقع ضمن اختصاصه، ولا يمثل البرلمان سوى سلطة تمرير، تماماً مثل اعتماد رئيس الدولة للقوانين لنشرها في الجريدة الرسمية!
بيد أن السيسي يتعامل على أنه “الولي الفقيه”، في سبيل مرضاة بايدن، باعتبار أن هذه قسمته في ما يملك، فلا يؤاخذه في إهماله للإصلاح السياسي وتجاوزه في ملف حقوق الإنسان!
مرحباً بـ”الدولة الضُرة”، وقانا الله وإياكم “كيد الضرائر”!
twitter.com/selimazouz1