قراءة في تخاريف “حنّة يامنة”، عن واقعة ٱلطّرد من ٱلْجزائر لجمال ٱلْعثماني/ المغرب – سعيدة الرغيوي

0
210

ٱرْتحَالٌ فِي ذَاكِرَة ٱلْجُرْحِ وٱلنَّزيفِ
(( ٱلْكِتَابَـةُ بين ٱلنّزيفِ وٱلْجُرْحِ وٱلذَّاكرة))
إِنَّ ٱلْعُنْوَانَ ٱلرّئيس للكتاب هو تخاريف “حنّة يامنة”**، جاء مُذَيَّلاً بِعُنوَانٍ فَرْعِـيٍّ يَرْفعُ ٱللُّبسَ عَنهُ وَيَنْتَشِلُ ٱلقارئ/ ٱلْمُتلَقِّي من مَتَاهةِ ٱلْبَحْثِ في إيحاءاتهِ ودلالاته.. هو عتبة مُضيئة لِفَحْوى ٱلْكِتابِ، فهو يَكْشِفُ بِشَكْلٍ غير مُباشِرٍ عن موضوع ٱلْكتاب؛ٱلْكامن في واقعة ٱلطَّردِ من ٱلْجزائر مرة أخرى.
فحضور مفردة “أخرى” تشِي بأنّ ٱلْواقعة قد تمَّ ٱلتّطرق أو ٱلْإشارة إليها سَابِقاً في ٱلسِّيرَة ٱلذَّاتية ٱلْمَوْسُومة بعنوان “قُرَارَةِ ٱلْخَيْط”؛ هذا بٱلنِّسْبَةِ للقارئِ ٱلْخالي ٱلذِّهْنِ غير ٱلْعارفِ بِسِيرة ٱلْكاتبِ وٱلَّذِي يَصْطَدِمُ بٱلْعنوان لأوَّلِ مَـرّةٍ.
وفي ٱلْغِلاف أيضاً اسم ٱلْمُبْدِع “جمال العثماني”* وَصُورَة لِوَجْهِ سيِّدةٍ طاعنةٍ في ٱلسّنِّ يَبْدُو أنّها “حنّة يامنة”.. صاحبة ٱلتّخَاريف.. وعلى ٱلْغلافِ تنْتفي أيّة إشارة إلى ٱلْجِنْسِ ٱلْإبْداعِيِّ ٱلّذي يُمْكِنُ أن نُصَنِّفَ تَحْتَهُ هَذا ٱلْكِتَاب.. وهَذَا مايَجْعَلُ ٱلْمُتَلقّي يَعِيشُ حالَة ترَقُّبٍ وتَشْويقٍ.
يُصَدّر ٱلْكتاب بكلمة شكر بقلم ٱلْكاتب “جمال العثماني”، لتعقبها ٱلْكلمات ٱلْأولى ٱلْمُؤثثة للتّخاريف..
تاريخ ٱلْوفاة، لمْ تكُنْ ٱلْوفاة وفاة عادِية كانت قسرية تَنْحَتُها ذَاكرة طِفلٍ يَسْترْجِعُ واقعةَ ٱلطَّردِ من بلَدِ ٱلْإقامةِ” ٱلْجزائر” عام 1975، ذاكرتُهُ مغْمُوسة بٱلْوَجَعِ، جسَدُهُ ٱلضَّامرُ ٱلّذي لمْ يشتد عُودهُ بعْدُ؛ مُكْتَوٍ بِلظَى ٱلطَّرْدِ ٱلتَّعَسُّفِي رُفقةَ عائِلتهِ.
ٱلتَّخَاريفُ ليست تخاريف أو حكايا جَدة أو” حنّة يامنة” كما يُصطلح عليها في شرق ٱلْمَغرِب.. هي نزيفٌ مريرٌ لم يبارحْ قطُّ دائرته.
فهو ٱلطّفلُ ٱلّذي ظَلَّ فِيه ٱلْجُرْحُ موشوماً لم يندمل، يَحْضُرُهُ كلّ حِينٍ وآنٍ.
فكانت تخاريف “حنّة يامنة”؛ هي سِياطُ ٱللّعنات ٱلْمَريرةِ تُطارِدُهُ؛ فيستحْضِرُها مِن خلالِ عملية ٱلْاسْتدعاءِ أو ٱلْفلاش باك.
ٱلْملمحُ ٱلنّازفُ ٱلْأولُ يكمنُ في زيارتهِ للموتَى.. شُهُودُ ٱلْجُرحِ ٱلنّازفِ وٱلطَّرْدِ ٱلتَّعسُّفي في مَشْهدٍ جعلَ ٱلطّفل ٱلصَّغير يَهْرمُ مُبَكِّراً.. ينْبُشُ ٱلْقُبُورَ لِيُطَرِّزَ صَدْرَهُ.. ((صدره ٱلصّغير ٱلذي هَرِمَ جَرّاء ٱلنّزيف..)).
لم يكن ٱلرّحِيلُ ٱخْتياراً.. كان تحتَ طائلةِ ٱلتَّرْحِيلِ ٱلْقسري.. وشم لم يمَّحِ فكان تمرير ٱلْخطاب..
ص “5” و”6″

علامةُ “قابيل” و”هابيل”زهق ٱلرُّوح تبارا
أصحاب ٱلْأخدود
وكيفَ سِيقتِ ٱلنّفوس نحو ٱلحدود زُمرا

ٱستحضارٌ لقصةِ ٱلْغدرِ وٱلْقتلِ ٱلْأولى في حَياةِ ٱلْبشريةِ.
جدلية ٱلطرح “ص 7”.

ٱلْمكانُ في هذا ٱلْكتابُ ٱلْمُتَمَنِّعِ عَنِ ٱلتَّجْنِيسِ حَمَّالُ دلالات/ لَيْسَ صَامِتاً ولا مُجَرّد مَعْبرٍ يُؤَثِّثُ ٱلذَّاكِـرة..
هو ٱلْوَشمُ وٱلْخِنْجَرُ ٱلشَّاهدُ عَلَى ٱلْجُرح ٱلنّازفِ، وقد جعلَ لهُ ٱلْكاتب عنوان “جدلية ٱلطّرح” وأرفقهُ بصورةِ ٱلْمركز ٱلْحُدُودِي “زوج بغال” / Poste frontière Zuj Beghal، لم يجسر ٱلْكاتبُ ٱلطّفل ٱلتّخلص من تداعيات ٱلْماضي وأوجاعه.

يقول :
” ينازعني في حياتي.. يتخلّلني في نظراتي
يتعقَّبُني.. يتربَّصُ بخطواتي.. يتحسس البريق
هذا الفتى
ينهمرُ ٱلدّمعُ من عيوني.. لا يبرحني.. يعتصرُ قلبي.. يثير ٱلْأعصاب
أنسلخ من جلدي.. هناك لست هنا
في عشة ٱلطُوب
عش العنكبوت
الخفاش
ٱلدّيار ٱلْمهجورة/ ((ص 8)).

هو ٱلطّفلُ ٱلْمَحْرُومُ من طفولتهِ يَحْمِلُ وِزْرَ قضيةٍ تُطاردُهُ ويُطارِدُها عسَاهُ يَسْتطيعُ طيّ ملف ٱلْجُروحِ ٱلنّازفة ٱلّتي حرمَتْهُ أن يَحْيا طفولته كما أقرانهِ.
هي حكايةٌ وواقعةٌ لا تنتهي.. تُراودُهُ عن نفسهِ.
يحملُ شمعة/ شمعة ٱلْحَياةِ كَيْ يُنِيرَ عتمات ودَيجورَ ٱلْجرح ويُقْبِرَ نِيرانَ ٱلْأَسئلةِ ٱلَّتي لاتُبارحُ قلبهُ ٱلصَّغير.

لماذا ياطفلي لماذا تحْرقُني
ولا تدعني في سلامٍ أحيا، ولا تهجرني
فتلك أيام كُنتَها.. وهذا ٱلْيوم أنتَ
لتعلم أنّ ماكان بيننا ٱنتهى
بنيه ٱلْموتى..

في جُعبةِ ٱلتّخاريف/ ٱلْحكاية شَجنٌ وَمَرارةٌ وطفلٌ يَحْملُ تِذكار ٱلذّكْرى ٱللَّعينةِ حقيبة من مخلفات ٱلتّرْحيل ٱلْقسْري أو كما يحلُو له تسميتها: “بقية ممّا تركهُ” آل قويدر”.

يَصْرخُ ٱلطّفلُ/ ٱلسّاردُ يُعلنُ عن نفسهِ.. فهو كما كل ٱلْأنبياء ٱلذين عانوا وكَابَدُوا..

جاء على لسانه في ص 10:

أيّوب مَسَّهُ ٱلضّر
“أخي محمد.. لقد استضعفوني.. كادوا أن يقتلوني يا ابن أمّ”.

يستحضرُ سيرة يوسف وإخوته وموسى عليه ٱلسّلام.. هو ٱلطِّفلُ ٱلَّذي كادت أن تقتلعَ جُذُورهُ ٱلْحُمَّى وأنْ تعْصِفَ بِهِ ٱلذَّاكرة وتغْدِرَهُ، فيصابُ بٱلزهايمر أو ٱلْخَرف.. بيْدَ أنّهُ مَايزالُ قَلَماً نازفاً صامداً وعقلاً سالماً ص 11.

ٱستنتاج:
تخاريف “حنة يامنة” هي كتابةٌ لا يمكنُ ٱلْإمْساك بتَجْنِيسها، ترتقُ ذاكرة جُرحٍ عميقٍ وترحيلٍ وطَرْدٍ تعسُّفِيٍّ سنة 1975م.
عودةٌ ليست كٱلْعودةِ، فيها من ٱلْانْكسارِ وٱلْوجَعِ ما لم تستطعْ ٱلْأعوام تَرْمِيمهُ، فٱلذّاكرةُ في هذا ٱلْإبْداع ٱلْعَصِي على ٱلتَّجْنيسِ كَمَا سِجِلٍّ تُحفظُ فيه أشياء جامّة يستدعيها ٱلطّفل/ ٱلسّاردُ.
ص/ 12

هكذا.. تعود منْكسراً صيحة “عمتي مومة” في ٱلْحافلة”.
طفلٌ ينظرُ من زُجاجِ ٱلنَّافذةِ
ٱلظّلامُ كثيفٌ
أشباح ٱلْأشجار

إِنّهُ تحْتَ وقعِ ٱلْأزمةِ.. كُل شَيْءٍ بٱلنِّسبَةِ إليهِ صارَ مُخيفاً مُفزعاً.. تُطارِدُهُ ٱلْأشْبَاحُ ويتعثَّرُ في ٱلظَّلامِ.
خرَفُ ٱلْجَدّة/ ٱلْحنّة “يامنة”؛ هاهُنا ليسَ إلاَّ صوتُها ٱلّذي مايزالُ عالقاً في ذاكرةِ ٱلطّفلِ “جمال”.
ٱلْخَرَفُ ليسَ كَلاَماً دُونَماَ مَعْنى.. إنَّما هُوَ ٱلصَّوْتُ ٱلدّفِينُ ٱلّذي يَعُودُ لِيَطْفُو كُلَّمَا كَشَفَ ٱلطّفلُ عَمّا يخْتزِلُهُ ٱللاَّشُعور؛ وما توظيف ٱلْفعل ٱلْمُضارع في نص “ٱلْخرف” ص 14 إلاّ دليل على ٱستمراريةِ ٱلْماضِي من خِلالِ صُوَرٍ لحنّة يامنة عندما كانت تُدْخِلُ ٱلْبهْجةَ على قُلوبِ ٱلْأطفالِ بتوزيعها “ٱلنّاير”.
جاء على لسانِ ٱلْكاتب في ص 14:

ذاكرة مُعلَّقة في عُنُقي كثدي ٱلْمعزة ٱلّتي كانت عندنا في ٱلْحوش، أتناوبُ عليها أنا وابنها “ٱلْعتروس”، وأربطها بجذع الكرمة التي كنت أصعدُ إليها، أبحث بين عروشها عمَّا طابَ ولذّ من حب “ٱلْكرموس”.
تداعياتٌ كثيرةٌ للطّفلِ ٱلْمأزومِ، مُخَيِّلةٌ تَجُوبُها ٱرتجاجات وتِجْوالٌ في ذاكرةِ من حملوا ٱلْحِكاية إلى ٱلْمقابرِ حيثُ شجرة ٱلسَّرْو.
ٱلْجدّة “يامنة” خَيْطُ ٱلْحِكاية في هَذهِ ٱلتَّخاريف، وهذهِ ٱلْاستدْعاءَات تَحْضُرُ فِي كُلّ لحظات ٱسترجاع ٱلكاتب لذاكرةِ ٱلْوجع ((ٱلطَّرد ٱلتَّعسّفي من ٱلْجزائر سنة 1975)).
عميقاً يحفرُ ٱلْجُرحُ ٱلنَّازفُ لمْ يبْرأ ولمْ يُشْفَ.. تلسَعُهُ سِياطُ ٱلذِّكرى.. يُعَرِّيها فتبدُو ٱلْفُصُولُ مُتَشابِكَةً كما أوراق ٱلدّالية.
هذا ٱلطِّفْلُ ٱلْمَحْزُونُ يستدعي كُل صَغيرةٍ وكَبيرةٍ حتّى إصابتهُ بٱلْحُكّة ٱلشّرجية نتيجَةَ إدمانهِ على حفنات ٱلسُّكّرِ. ص.20.
يُقحِمُ بذكاءٍ ٱلْمثل ٱلشَّعبي؛ ص 22 ((موكب ٱلْحروف)):
“حاجيتك ماجيتك”؟
“مفتاحها حديد وسكانها عبيد”
ٱلدَّلاحة

لقد جعلَ ٱلْمؤلف “جمال العثماني” من ٱلْكتابة ملاذاً آمناً للنّجاةِ من ٱلْغرَقِ وٱلطُّوفانِ ٱلْجَارفِ.
هي ٱستراحة بعيد معاناة.
لقد نجا ٱلطّفلُ/ نوح من ٱلْغرق
لما ركب ٱلسَّفينة، ص 22، ودائما في ٱلشّذرة ٱلْمُعنونة بـ: “مركب الحروف”.
اركب ٱلسّفينة ترسو على ٱلْورق.. تنجُو من ٱلْغرق
ٱلطُّوفان ٱلْجارف
تنوح
تبثّ شكواك عليلا
ابن “نوح”
انزل بسلام
تستريح قليلا
**
تحضرهُ أرواحٌ غادرت إلى دار ٱلْمَوتى تُظِلُّها شَجَرة ٱلسَّرو..
“حنة يامنة” و”ٱلْجَدُّ قويدر” و”ٱلْأم خضرة”.

حنّة: ((اختزالات ٱلْاسم)):
يُؤَشِّرُ عَلَى ٱلْحُنُوِّ وٱلْحَنَان؛ وإذا ما ٱعتمدنا ٱلْمفردة في سياق ٱلتّدَاوُلِ في ٱللّسانِ ٱلدّارجِ/ ٱلْعامية ٱلْمغربية لبعض مناطق ٱلْمغرب نجد أنّ مفردة “حنَّة” هي أقرب ماتكونُ إلى نبات طَيِّب ٱلرّائحة أوراقه خضراء يستعمل لتزيينِ ٱلْعرائس وٱلْمرأة حديثة ٱلْولادة وفي ٱلْمناسبات، رائحته طيِّبة ويقال أنّهُ نبات ينْبُتُ في ٱلْجَنّةِ.
للجَدّةِ في حياةِ ٱلطّفلِ/ ٱلسّارد ٱلشَّاهِدِ على مأسأة ٱلطَّرْدِ ٱلتَّعسُّفِي حُضُورٌ قويٌّ، إذْ سَهِرَتْ عَلَيْهِ عندما كان مَحْمُوماً، لدرجةِ أنَّ حُضُورها في حَياتِهِ غَطَّى عَلَى حُضُورِ ٱلْأُمِّ “خضْرَة”.
ورد في “ص18″

” تشُدُّني بٱلْجبهة
تلوِي رأسي بِقطعةِ كتَّان مبلّلة بٱلْخل
تكمد لي ضَرّي
تربت لي على الكتف
تهددني
..
إلخ.
لذلك مافتئ يُضْفِي عليها أوصافا وصفات عدة من قبيل: (مجذوبة.. تهذي.. مباركة مبرورة.. تصلّي وتتصدق.. إلخ)).

تتحرى طريق ٱلْاستقامة،
حنيفة تخاف من الموت.. ربي مولانا
تتفكر في خلق النّون
مُتدبّرة في ٱلْملكوت../ ص19.
مَاتَزَالُ ذَاكِرةُ ٱلطّفل تُناوِشُ أسئلة ٱلْجُرْح التي لَمْ تنْدَمِلْ بعْدُ.. تشتعلُ في ٱلرّأسِ لِيُعاودَ ٱلسّرد وتمرير ٱلْخطاب من خلالِ ذاكرة ٱلصُّور.

يقول في ص 80:
“ٱلْأرشيف”
في قبو بلدية حمام بوحجر بٱلْجزائر سِجِلِّي
يحتوِيني في ٱلرُّفوف تحت ٱلركام نسخة من ميلادي تأكله ٱلْأرض
تنخر مُجَلّده وتحدث فيه ٱلنُّدوب
تُدميني..؟؟

ٱلْأرشيف ليسَ مجرد سِجِلّ ودفترٍ وكفى بٱلنّسْبةِ للكاتب/ ٱلطّفل، هو شهادة مِيلادٍ تُدْمِي، وذاكرة جُرْحٍ ووجعٍ يحْضُرُهُ كُلَّما ٱسْترجعَ ذاكرة ٱلْمكان/ مسقط ٱلرّأس ((حمام بوحجر بٱلْجزائر)).
إنّهُ حَفْرٌ كما وشم ٱلْأُم “خَضْرة”..
لايهدأ ٱلطِّفل ٱلشّاهد على ٱلْوجع/ ٱلسّارد.. لاتفترُ بصيرَته.
ٱلْموت لم يُغيّبْ ٱلْمَـوْتَى.. يَحْضُرونَ فيه يحاورهم، ص”84″.
ٱلْأرواح ٱلْغائبة في زَمَنِ ٱلْحضُورِ
تحتَ ضَغْط ٱلتُّراب فأس يشُقُّ صَدْرِي
يحفرُني غمة تحبس ٱلْأنفاس..
حَبيساً من ٱلْحياةِ مُتوارٍ
خبر كان

ٱلْعبارة ٱلْأخيرة “خبر كان”؛ لم ترِدْ عبَثاً، فٱلْمَوْتُ لم يغيّبْ كما أسلفت ٱلْمَوْتى، بل عمِدَ إلى إحياءِ ٱلْجُرْحِ وتأجِيجهِ.
يستحضرُ طُقُوسَ ٱلدّفْن.. ٱلْكفن وغسل ٱلْميِّت بٱلْكافور ٱلْمُسَجّى بأوراقِ ٱلْحنّاءِ.. يَنْظُرُ إلى ٱلْموتِ بِصَوْتٍ فِيهِ من ٱلْأَسَى على من رحَلُوا وطالهم ٱلنِّسيان من قبل ٱلْأحياء، وهذا ما تُومِئُ إليهِ عبارة “خبر كان”.
ٱلْكاتب وٱلْموت قصة لا تنتهي.. يكتبُ أنفاسها كُلّ حينٍ.. وكُلّما عصفتْ به خُيُوط ٱلذِّكْرَى: ذكرى من رحلوا أو غيّبهم ٱلْمرض “ص89 “.

ٱلْأمُّ ” خَضْرَة” ماتت بدورها لكن روحه وخافقه يحفظ حُضُورَهَا؛ هي خضرة بنت بنعيسى ٱلتي تصلُها صدقة يوم ٱلْجمعة ص 90- 91.

ٱلْمرأةُ ٱلتّقية
سقطت من يدها ٱلسُُبْحة
وسلمت لقابضِ ٱلرُّوح ٱلْمفتاح
..
ترفعُ أصبع ٱلسّبابة
تشهدُ أن لا إله إلاّ ٱللّه/ ص90.

كُلّ شُخُوص هذا ٱلنّص وهذه ٱللَّوحات وٱلصُّور ٱلتي تؤثث هذا ٱلْخطاب كما نقْشٍ على حائطٍ أو وَشْمٍ فِي جَسَدٍ.. نُقشت بِحِبْرِ ٱلْألمِ وٱلْوَجَعِ في لَوْحِ ٱلطّفلِ/ ٱلْكاتب “جمال العثماني”، لم يستطعْ مَحْوَهَا مع ٱلحُروفِ ٱلّتي محاها في ٱلْمَسيدِ.
صُوَرٌ ألبسها حُضُورا وارفاً لحنّة يَامنة وٱلْأم “خضرة بنت بنعيسى”، و ٱلجد “قويدر”؛ كما ٱلْوشْمِ لم تُبارحْهُ قطُّ.
لم يكبر ٱلطفل.. مايزال مُصِرا على كتابة سُطوره ٱلنّازفة، ص 108.

يقول :
أكتب وأتتعتع، كخطوات “جدّي قْوِيدر” نحو ٱلْجامع يتّكِئ على خيزران
قلم يمشي بلا “لامبول” يُضِيءُ ٱلطّريق
يتجنّب ٱلْحجرة وٱلْعثرة
يخاف يسقط كتلك المرّة
يسيل الدّم من الجبهة
سلخة الجلدة من كفوف اليدين
أشياء ٱلْجد “ٱلْحاج قويدر” ماتزال حيّة.. ص 118:

رِفايْ “جدّي.. دجاجة تنقب ٱلثواني..” يسرسر في ٱلْفجر
حيّ على ٱلصّلاة
هذه ٱلْحكاية كما رويتها في ” قُرَارة ٱلْخَيْط”***
“ٱلْحاج قويدر” دائما قبل ٱلْهَلاّل

ٱسْتِحْضَارُ ٱلجَد يُثِيرُ في نفسهِ أشجاناً ممزوجةً بٱلتَّقْوى.. فهو ٱلرّجُلُ ٱلتَّقِيُّ.. ٱلْمُحِبُُ لِحَفيدهِ ٱلنَّصوح، ص117:
ٱللّيل، كجدي “قويدر”..
” لقمان” ينصحني
” ياولدي، لي تخلّيك.. خَلّيها”
( إلاّ أنّها.. هي.. ما خلاًَتني.. وأنا ما خلّيتها)
إلخ..

ويستمر تمرير ٱلْخِطاب.. ويستمر صوت ٱلشّاهد/ ٱلطفل ٱلّذي حُرِمَ من طُفولتِه ليحمل هم قضية يعتبرها مصيرية..

ٱلْهوامـش:

**- جمال العثماني،كاتب مغربي من مواليد حمام بوحجر بٱلْجزائر عام 1962/ ((مغربي ٱلْجنسية))، أحد ضحايا ٱلطّرد ٱلتّعسفي سنة 1975م.

*- تخاريف حنّة يامنة / عن واقعة ٱلطّرد ٱلتّعسُّفي من ٱلْجزائر مرة أخرى/ ط.2020 ، مطبعة ٱلْجُسور وجدة.المغرب.
*** – قُرارة ٱلْخيط، سيرة ذاتية عن واقعة الطرد ٱلتّعسفي من ٱلْجزائر سنة 1975م.طبعة 2012م.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here