“أسوأ ما في المدن المحتلة أن أبناءها لا يستطيعون السخرية منها”. (رأيت رام الله).
رحل الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي (8 يوليو/تموز 1944 ــ 14 فبراير/شباط 2021) صاحب التجربة الثرية والمختلفة، مقارنة بالكثير من الشعراء الفلسطينيين والعرب. ولعل الحِس الجمالي لكتاباته الشعرية والنثرية كانت انحيازه الأوحد، بعيداً عن طنطنة الشعارات، وقولبة الأصوات الإبداعية التي تتحدد هوية أصحابها، من خلال سمات أبعد ما تكون عن الشعر وعالمه.
في هذا التقرير السريع نحاول استقراء بعض من سمات تجربة البرغوثي، سواء من خلال مؤلفاته أو حواراته الصحافية التي تكشف الكثير عن رؤيته لمفهوم الشعر وقضية وجوده المزمنة.
فنجان قهوة مع الديكتاتور:
جاء مريد البرغوثي إلى القاهرة ليلتحق بجامعتها، وعند تخرجه عام 1967 تم احتلال الضفة الغربية، فتم منعه من العودة، وأصبح الاغتراب واقعاً يعيشه. يذكر أنه.. لم يستطع أن يجد حائطاً يعلق عليه شهادته الجامعية، بعد أن عجز عن الوصول إلى بلدته رام الله. وبعد الاستقرار والزواج، كان عليه عيش اغتراب مضاعف طيلة 17 عاما. فقد سجنته السلطات المصرية أولاً، ثم قامت بترحيله عام 1977 إثر معارضته زيارة السادات لإسرائيل. ويقول عن تلك الفترة.. “شربت أسوأ فنجان قهوة أثناء إقامتي في مصر في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، عندما قالوا لي حينها لا تكتب في السياسة، فأصبحت أعيش في عوالم مرتجلة، وتنقلت بين 30 بيتاً، ولم أقابل زوجتي سوى في المنافي، نتيجة فنجان قهوة مع ديكتاتور، لكن المبهج أن زمن الديكتاتورية بدأ ينهار في العالم العربي”.
ظل البرغوثي بعيداً عن أي سلطة، بل مواجهاً وساخراً منها، فإن لم يستطع السخرية من مدينة خيالية، فالأجدر أن يسخر ويُسفه السلطة، سواء كانت سلطة احتلال، أو سلطة محسوبة على كونها وطنية. ففي كتابه النثري الثاني “ولِدتُ هناك.. ولِدتُ هنا”، وهو عن زيارته الثانية إلى رام الله برفقة ابنه (تميم) الذي يرى موطنه للمرّة الأولى، يجعل البرغوثي من السائق (محمود) شخصية جديرة بالبطولة، لأنه نجح في الوصول بهم إلى المدينة، متجاوزاً حواجز وجنود جيش الاحتلال.. “محمود هو القائد لا السياسيين الذين ترونهم في الصور وتسمعون عنهم”. حتى تصل المفارقة مداها ساخراً من السلطة الوطنية، أو (الآفة) التي تتغذى على صخب النضال.. “كان رفع علم فلسطيني صغير حتى على أسلاك الكهرباء في الشوارع، يكلف الشاب حياته. كان جيش رابين يطلق النار ويقتل من يحاول رفع علم واحد، ورغم ذلك قدمنا الشهداء طول الانتفاضة من أجل رفع العلم، الآن العلم في كل مكان وراء طاولة كل موظف، مهما صغرت وظيفته”.
ظِل الأرض:
وتختلف رؤية البرغوثي عن غيره من الشعراء والأدباء الفلسطينيين، أو حتى العرب، الذين لا يفصلون قضية وجودهم عن القضية الفلسطينية. فالقصائد التي تجسد حيوات الناس تبتعد عن كلاشيهات أدب النضال المعهود، كما تجلت هذه الرؤية أكثر من خلال كتابه النثري: “رأيت رام الله” أو حواراته، التي تؤكد تجسيده للحالة الإنسانية أكثر من الارتباط بقضية مفروضة من خلال النظر إليها، نظرة وحيدة، وإلا ما عداها باطل. فالقصيدة التي تؤثر وتتعايش مع قارئ أو متلق في مكان آخر هي الأجدر على البقاء. فقط القصيدة دون صاحبها، بمعنى أنه يوجد من خلالها وليس العكس. فيقول: “إن الأدب المقاوم ليس الأدب الذي يهتف ضد العدو، أو بسقوط الديكتاتور، بل الذي يصنع لغة مختلفة تهز الثابت، وتبشر بالتغيير ويهدد الركود والثبات الذي يسعى الديكتاتور إلى ترسيخه”.
اللغة والنقد المتهافت:
ومن هذا الرؤية يطلق البرغوثي ما سماه بـ(تبريد اللغة)، بمعنى النبرة الخافتة، من خلال مفردات محايدة، والاعتماد على الإشارة والإيحاء، والتعبير، من خلال مفردات بصرية، أي إمكانية تحويل المكتوب إلى نَص مرئي، بدون لغة مفخخة تستجدي المشاعر. ويرى “أن الطغاة والحكام هم الذين يدمنون لغة الزخرف، اللغة البطولية الرنانة الحارة، ليكذبوا بها على الناس وعلى التاريخ وعلى أنفسهم”. ويرى البرغوثي مثلاً أن ما يكتبه نزار قباني ـوله كل الحق ـ ما هو إلا “إعادة طرح لشتائم المقهى بعد تزيينها بالوزن والقافية، أما أشعاره الغزلية، أو ما يسمى بشعر المرأة فتتسم بتكرار المفردات”. واللغة الديكتاتورية هذه ـ نسبة إلى خُطب الساسة ـ يستعيرها نقادنا الأجلاء المتخلفون عن الركب، متخذين من أنفسهم سلطة بدورهم، فالنقد ليس حراً كما يرى البرغوثي، يحرص على ترسيخ أصوات بعينها، تجربتها رديئة في الغالب، فيمنحون صكوك غفرانهم لمن يهابونهم بدورهم، “ما نراه اليوم هو مقالات نقدية سريعة تصلح للاستهلاك الآني، وتخشى الإشارة إلى قصيدة رديئة كتبها شاعر له اسمه، أو الإشادة بشاعر عظيم ناشئ”.
وما هي فلسطين؟:
كان البرغوثي يمتلك من الجرأة بأن يعبر تعبيراً مخالفاً عن السائد، ويصبح أكثر صدقاً وصراحة، وقد استبانت له الحقيقة عند عودته إلى رام الله، فعن أي أرض كان يبحث؟ عن خيال اختفى أم واقع لا يعرفه؟ وهنا تكمن المأساة بدون مواربة أو تراجيديا مقيتة مبتذلة.. “كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة، إن فلسطين خضراء مغطاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة، ما هذه التلال؟ جيريّة كالحة وجرداء! هل كنت أكذب على الناس آنذاك؟ أم أن إسرائيل غيّرت الطريق الذي تسلكه سيارات الجسر وحولته إلى هذا الطريق الكالح، الذي لا أتذكر أنني سلكته في سنوات الصبا؟ هل قدمتُ للغرباء صورة مثالية عن فلسطين بسبب ضياعها؟”. فالبرغوثي أدرك أنه لا يعيش من خلال المكان، وقد انتفى من المخيلة، بل يعيش من خلال الزمن. زمنه النفسي الذي يصوغ من خلاله حالته وإحساسه بما حدث ويحدث، “علاقتي بالمكان علاقة اعتباطية، لأن معظم الأماكن عشت فيها مضطراً.. فمنذ ضياع فلسطين، أصبحت كل الأماكن أماكن اضطرار”.
الشعب المعجزة:
وكعادة العرب في التباهي بأمجاد زائلة، وإنشاد الأغنيات الوطنية، يستشهد البرغوثي بمقابلة أجريت معه في مقر الإذاعة الفلسطينية في رام الله، وقد سأله المذيع: “ألسنا شعباً معجزة؟ شعباً مختلفاً؟ وطناً مختلفاً؟ فردّ قائلاً.. “مختلفون عن مَن بالضبط؟ وعن ماذا؟ كل الشعوب تحب أوطانها وكل الشعوب تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر. الشهداء يسقطون من أجل قضاياهم العادلة في كل مكان. المعتقلات والسجون مكتظة بمناضلي العالم الثالث والعالم العربي في طليعتها. لقد عانينا وقدمنا تضحيات بلا حد. لكننا لسنا أفضل ولا أسوأ من الآخرين. بلادنا جميلة وكذلك بلاد الآخرين”.
تاريخ الإهانة:
لم ير مريد البرغوثي حالة الاستثناء التي يعيشها الفلسطيني، إلا من خلال فقدانه الأرض، وضياعها، وما الكتابة والأغنيات إلا حالة من تذكّر هذا الضياع.. “ها هي تمتد أمامي ملموسة كعقرب، كعصفور، كبئر، ومرئية كحقل من الطباشير، كآثار الأحذية، قلت لنفسي ما هي استثنائيتها لو لم نكن فقدناها؟ هي أرض كالأرض، نحن لا نرفع لها الأغنيات إلا لكي نتذكر الإهانة المتجسدة في انتزاعها منا، الإهانة تنغص حياة المهانين، نشيّدها ليس للقداسة السالفة، بل لجدارتنا الراهنة، فاستمرار الاحتلال يشكل تكذيباً يومياً لهذه الجدارة، لم أصل إليها بعد، إنني فقط أراها بشكل مباشر، كنت كمن أبلغوه بالفوز بجائزة كبرى، لكنه لم يستلمها بعد”. هذه الرؤية وإن كانت تقتصر على الأرض الفلسطينية، إلا أنها تمتد لتشمل العالم الموسوم بالـ(عربي) حيث الأغنيات التي نظننا نشيّدها لمجد غابر وقداسة سالفة، ولكنها في حقيقة الأمر (مراثي) تصر دائماً على تذكيرنا بتاريخ طويل.. تاريخ الإهانة.
ولكن..
هناك ثمّة أمل، جيل آخر جديد يقاوم بلا أساطير، ولا هلاوس موروثة، ربما يستطيع أن يُغيّر من الأمر شيئاً..
“لا بأس أن نموت والمخدة البيضاء
لا الرصيف تحت خدنا
وكفنا في كف مَن نحب
يحيطنا يأس الطبيب والممرضات
وما لنا سوى رشاقة الوداع
غير عابئين بالأيام
تاركين هذا الكون في أحواله
لعل غيرنا
يغيرونها”.
* * *
بيبلوغرافيا:
ولد مريد البرغوثي في الثامن من يوليو عام 1944، في قرية دير غسانة القريبة من رام الله في الضفة الغربية. التحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية في جامعة القاهرة عام 1963، وتخرج فيها عام 1967. تزوج من الأكاديمية والناقدة الراحلة رضوى عاشور عام 1970، وأنجبا ابنهما تميم عام 1977، وهو العام نفسه الذي غادر فيه البرغوثي مصر، بعدما تم ترحيله لاختلافه مع نظام السادات بعد زيارته تل أبيب.
حصل البرغوثي على العديد من الجوائز، أهمها جائزة نجيب محفوظ للرواية عن مؤلفه “رأيت رام الله” عام 1997. وجائزة فلسطين للشعر عام 2000. كما تم اختياره رئيساً للجنة التحكيم لجائزة الرواية العربية لعام 2015.
الأعمال..
“الطوفان وإعادة التكوين” 1972، “فلسطيني في الشمس” 1974، “نشيد للفقر المسلح” 1977، “سعيد القروي وحلوة النبع” 1978، “قصائد الرصيف” 1980، “طال الشتات” 1987، “الأرض تنشر أسرارها” 1987، “عندما نلتقي” 1990، “رنة الإبرة” 1993، “منطق الكائنات” 1996، “ليلة مجنونة” 1996، “مجلد الأعمال الشعرية” 1997، “الناس في ليلهم” 1999، “زهر الرمان “2000، “منتصف الليل” 2005، الأعمال الشعرية الكاملة ــ في جزئين ــ 2013. وديوانه الأخير “استيقظ كي تحلم” عام 2018. إضافة إلى عمليه النثريين.. “رأيت رام الله” 1997، “وُلِدْتُ هناك .. وُلِدْتُ هنا” 2009.