كتب الروائي التونسي عز الدين المدني أواسط الستينيات في مجلة (الفكر) الرائدة رواية سماها (الإنسان الصفر)، وهي في نفس السياق الفلسفي لأدب الكاتب الوزير محمود المسعدي في روايته التي قدمها ونقدها عميد الأدب العربي طه حسين إبان صدورها والتي تحمل عنوان (السد)، ثم أتبعها برواية (حدث أبو هريرة).. وأصبح الكتابان منذ الخمسينيات من كلاسيكيات الأدب العربي والفلسفة الحديثة في برنامج المدارس الثانوية العربية.
أما (الإنسان الصفر) التي قرأناها وأحببناها فكانت قبل خمسين عاما إستشرافا فكريا لما ستصبح عليه منزلة الإنسان بعد نصف قرن.. واليوم عام 2021 أستحضر ما جاء فيها من فقرات بقلم مبدعها لأننا نعيش مأساة الفيروس التي لم تكن لها في فداحتها سابقة على مدى جيلنا وأجيال قبلنا، ولأن الأدب الحقيقي هو الذي يقرأ المصير بعيون المبدع ويتنبأ بالأحداث قبل وقوعها تماما كما فعل صاحب رواية (1984) الكاتب البريطاني (جورج أورويل) حين كتبها عام (1948).
وكلا الروايتين البريطانية (1984) والتونسية (الإنسان الصفر) تنطلقان من فكرة واحدة وهي أن هذا الإنسان الطاغي على الطبيعة والمتسلط بأجهزة الدولة على غيره من البشر ما هو في الحقيقة سوى كائن هش يمكن أن يقع تحت سيطرة ما سماه (أورويل) بالأخ الأكبر (بيغ براذر) الذي بدعوى رعايته والحفاظ عليه يجعل منه عبدا تحت الرقابة الشاملة لكل تصرفاته وحتى أفكاره وأحلامه يصادرها الأخ الأكبر بإرادته أو بدون إرادته.. وكذلك تتحكم فيه غرائزه البدائية وهو مستعد للقتل من أجل البقاء وفرض الاعتراف به في المجتمع.. وفي الأخير تلتقي الروايتان الإنجليزية و التونسية ليتحول المواطن الذي يعتقد أو يتوهم أنه حر إلى “إنسان صفر!”.
وتساءلت أنا مع زملاء مفكرين فرنسيين حين قضيت سبعة أشهر في بيتي في ضواحي باريس من آذار (مارس) 2020 إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2020 عن “العبودية” المستجدة التي مارسها ضد إنسانية الإنسان مجرد فيروس، صحيح أنه قاتل وحصد ملايين الأرواح منذ انتشاره الرهيب لكنه لا يعدو أن يكون فيروسا! بإمكان المرء القضاء عليه بمجرد الماء والصابون العادي!!!
وعلق بعض المفكرين الفرنسيين بأن للوباء إلى جانب الكوارث قدرا من المضاعفات الإيجابية على أصعدة البيئة وإعادة الوعي بحتمية التضامن بين الشعوب وعلى الصعيد الفلسفي أيضا، حيث وضع الإنسان في موضعه الحقيقي الهش وأعاد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية عليه حتى يدرك أن سلم الأولويات الذي حدده المواطن المعاصر لحياته هو خطأ في حد ذاته فليس جمع الثروة أو مراكمة الأملاك أو المزيد من القوة والهيمنة على غيره من الناس هي التي تمنحه السعادة بل إن صحته هي أصل كل سعادة، وقد تعود على إهدارها واعتبارها أمرا ثانويا أمام اللهاث وراء الربح السهل من الحلال والحرام، كأنه المقصود في كتاب الله العزيز بالآية: “وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)” صدق الله العظيم.
وقال الفيلسوف الفرنسي (ميشال أومفريه) معلقا عن هذه الظاهرة: “استعباد الفيروس للبشرية جاء تأكيدا لحكمة الفلسفة الوجودية لدى (جون بول سارتر) منذ الحرب العالمية الثانية، والتي أثبتت لسارتر ومدرسته الوجودية أن الإنسان الغربي همجي وبربري قاتل لم تسعفه قرون من التنوير وميثاق حقوق الإنسان لدى جدوده (فولتير) و(روسو) و(مونتسكيو)، فبمجرد انتشار النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية والاستبداد الستاليني الشمولي اندلعت حرب ضروس ارتكبت خلال سنواتها الستة أبشع جرائم الإنسان ضد الإنسان، وكل الإبادات الجماعية الشهيرة والرهيبة، أضيفوا لهذا كله فظائع الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، وجرائم أمريكا في فيتنام وأفغانستان! وهو ما أنشأ أدب العبثية لدى (ألبير كامو) الفرنسي ولدى (فرانز كافكا) التشيكي! وهما أول من نظّر (بتشديد الظاء) للإنسان الصفر الذي نعيشه اليوم عام 2021 مع الوباء.