أديبات وكاتبات على مرّ التاريخ.. أسماء رجالية ونهايات مأساوية – كريمة أحداد

0
152

مَيّ زيادة، وسيلفيا بلاث، وزيلدا فيتزجيرالد، والأخوات برونتي، وغيرهنّ كثيرات.. كاتبات ومبدعات وُسِمت حياتهنّ بالألم والمعاناة، ورحلن عن العالم رحيلاً مأساويا، لكنّهن ترَكن وراءهنّ أعمالاً أدبية جميلة..
هن كاتبات وشاعرات وروائيات، منهنّ مَن لم يتحدّث التاريخ عن إبداعها ونِضالها بما فيه الكفاية، ومِنهنّ مَن ارتحلت وسط الألقاب اتقاءً لشرّ المجتمع، وأخرياتٌ غيّرن أسماءهنّ إلى أسماء رجال حتى يأخذهنّ القراء على محمَل الجِدّ. أيا كانت الأوضاع فإنّ ما جمَع هؤلاء النساء هو حبّ الأدب والرّغبةُ العميقة في الإبداع بحرّية.
وإذا كان الأدباء الذكور قد كتبوا عبر التاريخ وهم يتمتّعون بقدرٍ من الحرّية والتقدير، فإن أديباتٍ إناثاً كثيرات كنّ عُرضةً لعدم التقدير أو للهجوم من المجتمع أو حتى للنسيان في ما بعد، فكانت حياتهنّ موسومةً بالمعاناة والألم واليأس.

مي زيادة.. من الرّفعة الأدبية إلى مستشفى الأمراض العقلية:

لم تكُن ميّ زيادة (1886ـ1941) -الكاتبة المثقفة والمبدعة صاحبة أشهر صالون أدبيّ عربيّ في القرن العشرين والمُتقنةُ لتسع لغات- تدرك أنّ المطاف سينتهي بها في مستشفى للأمراض العقلية. ففي سنة 1938 أي قبل وفاتها بثلاث سنوات فقط، أساء أقاربها معاملتها وأدخلوها للعلاج في مستشفى الأمراض العقلية بحجة اضطرابات نفسية كانت تعانيها. “تعرّضت مَي لغدر الأهل وطمعهم في المال والإرث، ثم المؤامرات الأخيرة التي فتكت بها تماماً وقضت على البقية الباقية منها”، تقول الكاتبة السورية غادة السمّان عن مَي.
كانت مَي زيادة تتمتع باطلاع واسع على التراث العربي والأدب الأوروبي، كثيرة التنقّل بين العواصم الثقافية العربية، وفتَح لها عملها في مجال الصحافة آفاقاً واسعة، بحيث تعرّفت إلى مفكّرين وأدباء من مصر ولُبنان وحتى الأدباء العرب المقيمين في المهجر. كتبت مَي في فنّ المراسلة، وراسلت سياسيين وشعراء ومفكرين، ولعلّ من أبرز مَن راسلتهم الأديب اللبناني جبران خليل جبران.
أصدرت مَي عديداً من الكتب أبرزُها: “رجوع الموجة” و”باحثة البادية” و”سوانح فتاة” و”ظلمات وأشعة” و”غاية الحياة”، بالإضافة إلى مجموعة من الترجمات مثل “ابتسامات ودموع أو الحبّ” من اللغة الألمانية، و”الحب في العذاب” من اللغة الإنجليزية.
وفي عام 1913 أنشأت صالونها الأدبيّ الشهير في مصر الذي كان يتحلّق حولها فيه أدباء كِبار من طينة طه حسين وإسماعيل صبري وأحمد لطفي السيد وأمين معلوف وأحمد شوقي وخليل مطران وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي.
يقول الأديب المصري طه حسين عن صالون مَي الأدبي: “كان صالوناً ديمقراطيا مفتوحاً، وقد ظللت أتردد عليه أيام الثلاثاء إلى أن سافرت إلى أوروبا لمتابعة الدراسة، وأعجبني منه اتّساعه لمذاهب القول وأشتاتِ الكلام وفنونِ الأدب، وأعجبني منه أنه مكانٌ للحديث بكلّ لسان، ومنتدى للكلام في كلّ عِلم”.
بعد خروجها من مستشفى الأمراض العقلية، عانت مَي الوحدة والعزلة والألم حتى توفيت في القاهرة عام 1941، ولم يمشِ في جنازتها سوى ثلاثة ممّن كانوا يأتون إلى صالونها الأدبي، وهم: أحمد لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان جميل.

سيلفيا بلاث.. وحدة وقلق وإبداع:


هي شاعرة أمريكية، وزوجة الشاعر والكاتب البريطاني تيد هيوز. “أيُمكن لشاعر وشاعرة أن يُغرَم أحدهما بالآخر مِن دون تنافس بينهما على المدى البعيد؟ المؤكد أن هذا ليس مستحيلاً، لكنه صعب”، تقول الروائية التركية إليف شافاق في معرض حديثها عن الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث في كتابها: “حليب أسود”.
على الرغم من أن سيلفيا بلاث كانت شاعرةً رائعة تتميّز قصائدها بحساسية عالية وبقدرٍ كبير من الإبداع، فإنها عانت خلال حياتها مختلف مشاعر القلق بخصوص الأنوثة والأمومة. وعندما رُزِقَت بأطفال استبدّ بها القلق من العالم الخارجي.
كثيرٌ من الشاعرات والأديبات على مرّ التاريخ عانين تجربة الأمومة، بزعم أن هذه الأخيرة أخذت من وقتهنّ وفرضت عليهنّ نظام حياة يتعارض مع الإبداع، وبلاث كانت واحدة منهنّ. كان البقاء في البيت لتربية طفليها خياراً صعباً، لكنّها لجأت إليه رغم ذلك، وغرقت في دوامة الأشغال المنزلية وتغيير الحفاظات، بينما كانت تراقب بصمت ما يحدث في عالم الأدب. في ذلك الوقت كان زوجها يواصل حضور المناسبات الثقافية واستمر في كتابة الشعر وإقامة علاقات جديدة في مجال الإبداع الأدبي وتعزيز شهرته.
كانت سيلفيا تراقب كل هذا بحسد وتشاؤم وقلق لم تخفِه حتى في قصائدها نفسِها. بعد طلاقها من تيد هيوز، قررت أن تجمع شتات نفسها، فكتبت أجمل قصائدها في تلك الفترة. كانت تكتب كثيراً وفي كلّ مكان وبلا هوادة، تكتب بحب وبصدق من دون أن تنسى أنها أم أيضاً. “كانت تريد أن تكون بارعة في كلّ شيء: أم وربة بيت وكاتبة وشاعرة”، تقول إليف شافاق في “حليب أسود”.
أُنهِكت بلاث بسبب رغبتها في أن تكون مثالية. كانت حينها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. بعد أن تأكدت من نوم طفليها الاثنين، تركت لهما حليباً وخبزاً وأغلقت باب غرفتهما، محكمة سد كل الشقوق فيها، ثم توجهت إلى المطبخ، وفتحت الفرن، وتناولت حبوباً منومة، ثم حشرت رأسها في الفرن، ونامت إلى الأبد.

زيلدا فيتزجيرالد.. ثمانية عشر عاماً من العذاب:


التقت زيلدا زوجها الكاتب الأمريكي الشهير سكوت فيتزجيرالد قبل نهاية الحرب العالمية الأولى. وحين هاما بحبّ بعضهما تزوّجا عام 1920. كانت زيلدا امرأة مبدعة وذكية وثاقبة النظرة إلى العالم، لدرجة أن سكوت عندما سُئل عن طموحاته ذات مرة قال: كتابة الكثير من الروايات والاستمرار في حب زوجتي العزيزة إلى الأبد”.
لكنّ الأمور لم تجرِ كما كانا يتمنيان، فقد تحولا بسرعة إلى غريمين، يتنافسان في مجال الأدب ويدمر أحدهما الآخر كنتيجة.
وفي الوقت الذي تأججت بينهما الخلافات كانت شهرة سكوت تزداد يوماً بعد يوم. “ومما يبعث على الدهشة أن الشخصيات التي كتب عنها والموضوعات التي عالجها كانت من بنات أفكار زيلدا، بل إن بعض شخصياته كانت تتكلم على النحو الذي كانت تتكلم به زيلدا. هل سرق الأفكار من زوجته؟ وهل سلب منها بعض كتاباتها”، تتساءل إليف شافاق في “حليب أسود”.
زعم عديد من الناقدين أن كثيراً من أفكار زيلدا التي كانت تكتبها في يومياتها انتهى بها المطاف في روايات زوجها الشهيرة. وكتبت زيلدا نفسُها مقالةً عن إحدى روايات زوجها في صحيفة نيويورك تريبيون قالت فيها: “يبدو لي أنني استدللت في إحدى الصفحات على جزء من يومياتي القديمة التي اختفت على نحو غامض بعد زواجي بوقت قصير.. الحق أن السيد فيتزجيرالد -وأظن أنه كان يكتب اسمه على هذا النحو- يبدو مؤمناً بأن السرقة الأدبية تبدأ من المنزل”.
وفي الوقت الذي كان يلمع فيه نجم سكوت أصيبت زيلدا بانهيار عصبي وهلوسات وحاولت الانتحار. ثم جرى تشخيصها بالانفصام، وأمضت ثمانية عشرة عاماً من حياتها تحت رعاية أطباء نفسانيين حتى توفيت عام 1948، تاركةً بعض الإرث الأدبيّ الذي كانت مادّته مستمدّةً من مرضها النفسي، مثلما فعلَ سكوت تماماً.
ولم تُحسَم قضية “السرقة الأدبية” في حياة سكوت وزيلدا بين النقاد الأدبيين حتى الآن.

“امرأة” وأسماء رجالية:

اضطرت كاتباتٌ كثيرات على اختلاف البلدان التي عِشن فيها والثقافات التي ينتمين إليها إلى تغيير أسمائهنّ وتذييل كتاباتهنّ بأسماء مستعارة أو اتخاذ أسماء رجالية، حمايةً لأنفسهنّ من ردود الأفعال التي يمكن أن تصدر عليهنّ، باعتبارهنّ نساءً يكتبن عن قضايا تشغلهنّ، وأحياناً أخرى خوفاً منهنّ ألا يؤخذن على محمل الجد.
فالنساء مقارنة مع الرجال دخلن متأخرات عالم الكتابة، وإلى عهدٍ قريب لم يكن ما تكتبه النساء يؤخذ بعين الاعتبار. اضطرّت الكاتبة التركية فاطمة علياء توبوز (1862-1936) إلى القراءة والكتابة خِفيةً عن زوجها وعائلتها، قبل أن تتخذ لها اسماً مستعاراً تذيّل به كتاباتها وهو “امرأة”. وفي عام 1891 استطاعت أول مرة أن توقع رواية لها بعنوان “محاضرات” باسمها الحقيقي، بعدما حصلت على إذن من زوجها بالنشر باسمها.
غيّرت كاتبات أوروبيات أيضاً أسماءهن، فوقّعت الكاتبة البريطانية الشهيرة ماري آن إيفانس أعمالها باسم رجل وهو جورج إليوت، ووقّعت الروائية الفرنسية أمانتين أورو لوسيل دوبان أعمالها باسم جورج صاند. أما الأخوات برونتي (إيميلي وشارلوت وآن) فقد اضطررن إلى توقيع أعمالهن بأسماء رجالية مختلفة لمدة طويلة، قبل أن يوقعنها بأسمائهن الحقيقية.
وبالرغم من المعاناة والقلق والعقبات التي وُضِعت في طريقهنّ، فإن كثيراً من الكاتبات النساء استطعن إنتاج أعمالٍ أدبية مهمّة، وتركن للتاريخ شعراً مشرقاً ورائعاً ورواياتٍ عظيمة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here