ديوان الشعر المغربي: جمالية الهايكو في “خنافس مضيئة” – الطيب هلو

0
147

كتاب “خنافس مضيئة” عمل يختزل ملامح تجربة الشاعر والروائي سامح درويش الفنية، ويكرس نمط الكتابة عند هذا الشاعر. كما أن هذا العمل الشعري يهب القارئ متعة خاصة حققتها الصورة والإيقاع واللغة الشعرية والرؤية المتحكمة في النصوص الشعرية، والتي تجعل القارئ لا يشعر بالتحول من نص إلى آخر إلا عندما يعلن الرقم عن الدخول في عوالم نص جديد.

إن الشاعر سامح درويش من خلال “خنافس مضيئة” ينطلق من رؤيا شعرية واضحة الملامح لا نحتاج إلى جهد كبير لاكتشاف سماتها. ولعل هذا ما سنحاول كشفه في هذه الورقة النقدية السريعة للكتاب. فضلا عن ذلك نجده حريصا على الصورة الشعرية التي تموج بانسيابية في تشكيل شعري جميل يتشكل من كل مكونات البلاغة الشعرية، فهي مزيج من الاستعارة المبتكرة والكناية القريبة التي لا توقع النصوص في الغموض ولا تربك القارئ، لكنها في الآن ذاته ترتفع عن الابتذال والسهولة، مما يمنحها جمالها الخاص بها.

أما الإيقاع، وقد كان في عمومه إيقاعا نثريا يرتهن إلى منجز قصيدة النثر المشحون بمرجعية إيقاعية حداثية تقوم على إيقاع اللغة الداخلي. ذلك أن هذا الديوان يتسم باتساع مجاله الإيقاعي حيث وظف الشاعر تقنيات عديدة تفجر إيقاعات النص وتمنحها الطاقة الموسيقية الضرورية لكل ديوان جميل. إضافة إلى ذلك يبدو لمتصفح الديوان اهتمام الشاعر بالتشكيل البصري، من حيث توزيع الأسطر وحجمها ونظام المقاطع والترقيم وممارسة لعبة البياض بما تحمل من دلالات وإيحاءات، مما يكشف وعيا بصريا لدى الشاعر. إنه تشكيل يمنح العين متعة لا تقل عن متعة الأذن، من هنا جمع الشاعر بين إيقاعين: السمعي والبصري.

سنركز في هذه الورقة على خصوصية الهايكو كمحطة وصلتها تجربة سامح درويش الإبداعية.

1. سأستعير من الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس قولته “إني أكتب بجدية الطفل الذي يلهو” لأصف بها تجربة سامح درويش، لأنه يكتب بالجدية نفسها، فهو طفل يرسم ما تقع عليه عيناه، محتفظا ببكارة الأشياء قبل أن يقتلها التعود وتلوثها العادة وتحولها إلى المألوف، مستمتعا بدهشة اكتشاف الأشياء لأول مرة. وقد استطاع أن يعيدنا إلى تلك الدهشة، ويقدم لنا جزءا من عبقرية الهايكو التي نحس بها ولا نعرف وصفتها فنردد مع محمد عظيمة مترجم كتاب الهايكو الياباني قوله ” لا أعرف كيف أتذوق الهايكو حتى الآن ولا أعرف أين عبقريته.”

2. الاستمساك بالطبيعة في كل تفاصيلها وتحويل كافة عناصرها إلى مفردات شعرية وهو في ذلك متبع وفي لخطى الهايكو الياباني خاصة عند رواده كباشو صاحب الضفدعة فنعثر على الضفدعة وأبي مقص والجدجد… وهي نفسها مكونات معجم الهايكو الياباني، لكن سامح في كثير من نصوصه يمنح خصوصية لهذا الهايكو إما في إدماجه مفرداتنا المغربية أو المحلية أو في إسباغ العصرية على نصوصه من خلال معجم تكنولوجي (جسد تاكتيل ـ الصورة العائلية ـ الترامواي ـ الإس إم إس…)
كما يمكن القول إنه في نصوص الهايكو لم يعد ممكنا تصنيف الألفاظ إلى شعرية وغير شعرية، فلا أحد قبل ذلك كان يستسيغ أن ألفاظا كالضفدعة وأبي مقص والدودة يمكن أن تشكل معجما شعريا.

3. النقل الحيادي للأشياء والمشاهد والأحداث البسيطة التي تجري أمام ناظريه، هو رسم بالكلمات على حد تعبير نزار قباني، لكنه رسم بأقلام الرصاص دون تلوين أو مساحيق بلاغية بالإضافة إلى الاحتفاء بالهدوء وسط الطبيعة وتركها تعبر عن نفسها بألق حر دون معنى خفي يدعو إلى إقلاق راحة النص بالتأويل فالهايكو الياباني كما اللغة اليابانية مباشرة لا مجاز فيها ولا تأويل بل إن الهايكو الياباني أقرب إلى اللغة العامية المباشرة أو اللغة الميسرة التي يفهمها كل الناس، فمعنى الهايكو هو تماما ما يقوله وليس هناك معنى آخر يمكن الوصول إليه بالتأويل، لذلك كان التحدي الأكبر الذي نجح فيه سامح درويش هو أن يخضع اللغة العربية المسكونة بالمجاز لقوالب الهايكو الياباني وأن يقنعنا بجماليته، ولعل هذه البساطة تخلق تحديا حقيقيا للنقاد العرب المولعين بالتأويل وتجعل جلهم عاطلا عن العمل إزاء هذا الفن.

4. يحترم سامح خصوصيات الهايكو الياباني كالحرص على ما يدل على الزمن أو الفصل بشكل خاص وبالاهتمام بالطبيعة والفراغ، كما يحترم شكل النص ذي الأسطر الثلاثة لكن طبيعة اللغة العربية لا تتيح فرصة توظيف إيقاع الهايكو القائم على النظام المقطعي (5/7/5) الموزع على ثلاثة أسطر، عكس اللغة الفرنسية التي استطاعت ذلك في حدود ما اطلعنا عليه من نصوص. لذلك جاءت نصوص الهايكو عند العرب ذات خصوصية نثرية. وقد يكون ذلك تمظهرا حداثيا يوجد له شبيه في الهايكو المعاصر حتى لدى اليابانيين أنفسهم، كما يقول محمد عظيمة في مقدمة “كتاب الهايكو”.

إن إيقاع الهايكو الياباني ـ حسب مترجم “كتاب الهايكو” ـ يعادل المدة الزمنية التي يستغرقها النفس عند إطلاق آهة التعجب أو التمتع بالشيء وهذا يعادل زمن صرخة مثل: “آه يا سلام ما هذا الجمال”. لكن للعربية خصوصياتها طبعا فكان إيقاع الهايكو المكتوب بالعربية ـ ولا أقول الهايكو العربي ـ أطول زمنا.

ولعل ما يكشف صيغة الإعجاب والدهشة أساليب النداء المقترنة بالاستغاثة (يا ل(كذا) زهي كثيرة في ديوان سامح درويش و”كتاب الهايكو” المترجم مثل:
• يا لصحبة الوادي/ على حواف قلبي أيضا/ طحلب أخضر (سامح 14)
• يا للبهجة الغادرة/ بقفزة خاطئة/ تقع السمكة خارج الماء (سامح 16)
• يا للبركة العتيقة/ قفزة ضفدعة/ صوت الماء (باشو ـ أشهر هايكو)
• يا لماء النبع الرقراق/ كيف يبرد/ إزميل الحجَّار (يوسا ـ بوسون)
• يا لطائر التدرج/ يغادر خابطا برجليه الغيوم/ التي تعبر فوق الحقول ( شووزان)
• يا للدخان/ الذي يشكل / باكورة سماء هذا العام (كوباياشي ـ إيسا)

5. يميل الهايكو نحو الروح المرحة المسلية الممتعة والضاحكة ونحو كل طريف وهذا ما نحسه في نصوص “خنافس مضيئة” التي تتجلى عبقريتها في قول البديهيات والتسلي بمتابعة العادي والبسيط وقول ذلك بشكل جدي جدا بعيدا عن اللف والدوران وباقتصاد لغوي مدهش وبطرافة مدهشة وهذا هو معنى كلمة ها يكو أي كلمة طريفة أو ممتعة. وليس من السهل ملاحظة هذه البديهيات والتعبير عنها بطريقة حيادية مطلقة وكأنه لا وجود للملتقط، أي بعيدا عن أي ذاتية، وبأقل ما يمكن من الكلمات. وهذا هو التحدي الأخطر الذي أوقع بعض المتطفلين في الإساءة إلى الهايكو بسبب الاستسهال المؤدي إلى الإسهال. فكتاب الهايكو يقضون الوقت الطويل أمام هذه الأسطر الثلاث فالهايكو ليس إلهاما ولا حدسا ولا بديهة ولكنه جهد وكد فباشو كتب أشهر هايكو عشرات المرات قبل أن يستوي بتلك الصيغة الخالدة، وسامح درويش بذل جهدا كبيرا تكشفه متانة النسج وحسن السبك وكثرة الماء إذا جازت لنا استعارة معجم الفحولة الشعرية العربية.

في الختام:
أختم هذه الورقة بالقول إن سامح درويش أكثر شعراء جيله قلقا خلاقا وأشدهم حرصا على التجريب الشعري، ففي كل عمل نعثر على تحولاته الباهرة. إنه لا يسبح في نهر التجربة الشعرية مرتين، متلبسا بالإثم الهيراقليطي، محلقا في أفق ما بعد الحداثة بكل ما يستوجبه ذلك من التنصل من قيم الثبات والسكون، فلا قيمة ثابتة في مشروع سامح، فالمتفحص لأعماله الثلاثة المنشورة في زمن واحد وبطبعة متشابهة أنها مختلفة جذريا، يؤسس كل واحد منها عالمه الخاص بمعزل عن الآخر، مما يكرس فكرة أن سامح لا يكتب نصوصا وإنما يبني مشاريع كتابة تعانق أفق الحداثة السائلة كما يسميها زيجمونت باومن، بعيدا عن كل تمظهرات الخمول الذهني والكسل الإبداعي الذي يخيم على بنيات التقليد عقيمة الإنتاج.
ولعل اختيار سامح الهايكو شكلا كتابيا فيه كثير من الجدة والتجدد رغم أنه شكل ياباني قديم، إنه رغبة في تأسيس كتابة لا تخنع للمركزية الغربية الأوروبية، بحثا عن شكل أكثر فرادة وتميزا وبأفق مغاير خفيف ينزع نحو تنحيف النص وتخليصه من دهون القصيدة وزوائدها بحثا عن نمط أدبي ينسجم مع عصر السرعة والريجيم والقطارات السريعة والوجبات السريعة وثقافة الفيديو كليب.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here