ديوان الشعر المغربي، ميمون الغازي ورهان التحديث في الزجل المغربي – الطيب هلو

0
60

بين “خيط من الشتا” و”ميمكنش نكون أنا” تمتد مسافة إبداعية حافلة، ظلالها وارفة بالجمال والدهشة، على الرغم من أن المسافة الزمنية بين هذين العملين قريبة جدا. وهذا الأمر يكشف عن دربة ودأب وكدّ تسلح بها الشاعر ميمون الغازي لتؤتي أرض القصيدة أكلها كل حين بإذن الإبداع الجاد وببركة “أولياء الإبداع الصالحين” كما يسميهم حكيم الزجالين إدريس أمغار المسناوي، الذي ترك بصمات واضحة في جيل الشعراء الجدد، وفي تجربة الزجال المتميز ميمون الغازي.

لقد أحكم الزجال ميمون الغازي نسخ “خيط من الشتا” عندما فتله من سبعة عشر خيطا/ قصيدة، ليمكنه من وضع قدم راسخة في ساحة الزجل المغربي، لكنه بهذا الديوان الجديد “ميمكنش نكون أنا” استطاع أن يحتل مساحة واسعة في حقل الإبداع المكتوب باللغة الدارجة ويزرعها بكل مدهش وجميل ومفيد. فالقارئ لهذا العمل يكتشف أن الرؤية المتحكمة فيه هي رؤية وجودية تجعل الإنسان وقضاياه وهمومه بؤرتها ومركزها الذي تدور حوله كل المعاني الجزئية والتفاصيل المبثوثة في ثنايا النصوص. فالحياة والموت والمصير والحرية والحب وغيرها من القضايا الجوهرية والعميقة والمتجذرة في ذات الإنسان هي التي تشكل عوالم هذا الديوان. كما أن الشاعر ميمون الغازي كشف عن امتلاكه للأدوات الفنية الكفيلة بالتعبير عن هذه القضايا الكبرى. فقد امتطى حصان الخيال وسرح به في غابات المجاز والاستعارة ليمنحنا صورا قوية لافتة تضاهي الصور الشعرية التي تهبها القصيدة الحديثة المكتوبة باللغة العربية الفصيحة. وهو بذلك يشكل امتدادا حقيقيا لجيل الرواد الذين مكنوا للحداثة في الزجل المغربي وكسبوا رهاناتها الفلسفية والفنية. فبقراءة سريعة للديوان يمكن أن ندرك أن ميمون الغازي يمثل هذا الامتداد الشعري لإدريس أمغار المسناوي بدرجة أولى، ثم لأحمد لمسيح وإدريس بلعطار، حيث إنه ـ مثلهم ـ يحتفي بالدال اللغوي، ويمنحه مركزية داخل نصه.

فاللفظ عنده ليس مجرد دال على المعنى، إنما هو معادل له، وأن قيمته ليست في ما يدل عليه بل قيمته في ذاته. وما يقال عن الدال اللغوي يقال عن بقية الدوال المتناغمة داخل القصائد، كالدال الإيقاعي الذي له سلطته وسطوته داخل الديوان، إذ نجد الاهتمام البالغ الشاعر به من خلال هذا الحضور القوي للقافية بكافة أنواعها وللإيقاعات الداخلية المشكَّلة من التجنيس والترصيع والتوازي والتكرار، وكافة العناصر التي تمنح النص إيقاعه الخاص وتمنحه كثافته الموسيقية وطاقته الصوتية.

إن ميمون الغازي يكتب زجلا حديثا يخالف القصيدة الكلاسيكية كما يكتبها أبناء المنطقة الشرقية التي ينتمي إليها. ومن مظاهر هذه الحداثة اتكاؤه على “شعرية الاستدعاء” حيث ترتهن نصوصه للمرجعيات الثقافية التي تذكرنا بتجربة شعراء القصيدة الحرة كبدر شاكر السياب على الخصوص، فنجد نصوصه تعج بالأساطير (ميدوزا ـ فينوس ـ عشتار ـ سيزيف ـ نارسيس ـ بيجماليون ـ آمون..) وتحفل بالقصص العلمية والعالمية كالدونكيشوت وتفاحة نيوتن. وبالشخصيات والقصص الدينية (أيوب ـ طوفان نوح ـ آدم ـ الدجال..) وبالقصص الشعبية (ميمونة، حجاية الغول.. ) كما يتجلى الاستدعاء أيضا في احتفائه بـ”المقتبسات” التي توجه القراءة وتبئر المعنى، فكل نص من نصوص هذا الديوان مصدر بقولة لأحد الكتاب أو المفكرين أو الزعماء مثل: غادة السمان ـ محمود درويش ـ إميل سيوران ـ إدريس أمغار المسناوي ـ شرشل ـ كريستوفر مارلو ـ جون جاك روسو..

وكما يرتقي ميمون الغازي باللغة الدارجة ليقربها من الفصيح حيث يقترض منه كلمات كثيرة مثل (أعطاب ـ كرنفال ـ ترشق ـ زورق..) فإنه يحتفي بالكلمات التي تنتمي لمنطقته الشرقية كالقوال والقصبة والكلال.. ويقتبس ألفاظا علمية أو فلسفية أو طقوس أو مسميات مثل: تسونامي ـ نيرفانا ـ الأركيولوجيا.. مما يعطي لغته نكهة خاصة تنحاز إلى هذا الاختيار الشعري الحداثي، المستوعب للمستوى الذي وصلته القصيدة الزجلية المغربية، والراغب في الإضافة إليها، سواء على مستوى الرؤيا الشعرية أو الإنجاز اللغوي، لأن الشعر الخالد يقف على قدمين: الرؤيا المعرفية والإنجاز الجمالي.

لقد تفاديت في هذا التقديم التمثيل بمقاطع من الديوان إيمانا مني بأن النص الشعري يقرأ كاملا. وحسبي أني حاولت الاقتراب من العوالم الخصبة لهذا الديوان ومن أشجار باسقة دانية قطوفها، لأقطف من عناقيد المتعة ما يملأ كؤوس الذوق الجميل.

وفي الختام آمل أن أكون قد استطعت تقريب هذه الكؤوس المترعة من أذهان القراء. فهنيئا للزجال ميمون الغازي هذا الإنجاز في انتظار أعمال أخرى تزكي موقعه بصفته أحد الزجالين المبدعين القادمين بقوة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here