قلّما يُتَحدّثُ عن موضوع الأدب الرديء في البلدان العربية، وعن المنتجات الأدبية الرديئة التي تخرج إلى الساحة، ونادراً ما يُكتَب نقدٌ حقيقيّ لهذه الأعمال بهدف كشف المشكلات التي تعاني منها هذه النصوص. هل يشجّع الحقل الثقافي العربي الرداءة؟
قال المفكّر والفيلسوف أنطونيو غرامشي ذات مرّة عن الوضع الثقافي المتردّي وعن الأشخاص الذين يتاجرون في الثقافة: “هذه ليست ثقافة، إنها تحذلق، إنها ليست ذكاء.. ونحن نردّ عليها بعقلٍ وجيهM الثقافة شيءٌ مختلفٌ جداً”.
يذكّرنا ما قاله أنطونيو غرامشي بالواقع الثقافي العربي اليوم، وبخاصّة الساحة الأدبية، حيث يوجد أشخاصٌ لا علاقةَ لهم بالكتابة الأدبية ولا بالإبداع بصفةٍ عامّة. أشخاصٌ جعلوا من الثقافة “بيزنس”، ومن الكتابة “بريستيج” وصفةً يُلصقونها بأسمائهم، بهدف الظهور، كلّما سنحت لهم الفرصة.
بل هناك من كتَب مجموعات قصصية وهو لا يعرفُ معنى القِصّة، ومن ألّف رواياتٍ وهو لا يعرفُ معنى الحبكة والشخصية والبناء الروائي، ومن نشرَ قصائدَ شعرية وهو لا يعرِف الفرق بين الشعرِ الحرّ وقصيدة النثر، ولم يسمَع يوماً في حياته بشيء اسمه “علم العروض”. فتُصدَر كلّ سنةٍ أعمالٌ لا علاقةَ لها بالأدب، ويصعدُ هؤلاء “الأدباء” إلى المنصّات للحديث عن رؤيتهم للإبداع وعن طقوسهم في الكتابة وعن سعادتهم بإصدار أعمالهم “الأدبية”.
ومع ذلك، قلّما يُتَحدّثُ عن موضوع الأدب الرديء في البلدان العربية، وعن المنتجات الأدبية الرديئة التي تخرج إلى الساحة، ونادراً ما يُكتَب نقدٌ حقيقيّ لهذه الأعمال بهدف كشف المشكلات التي تعاني منها هذه النصوص، إن لم نقُل إنّ معظم النصوص “النقدية” التي تُكتَبُ عن مثل هذه الأعمال وتقدّمها للناس، تحوي كثيراً من الاحتفاء والمجاملة والمحاباة.
نصوصٌ لا ترقى إلى تسميتها أدباً:
يُمكن بسهولة رصدُ الثغرات التي تتضمّنها بعض الأعمال الأدبية التي صدَرت خلال السنوات الأخيرة: أخطاء لغوية ونحوية بالجملة، غيابُ الفرادة والحسّ الفني والإبداعي، قصصٌ مكرّرة ومستهلَكة، شخصياتٌ ضعيفة ومهلهلة، تحذلقٌ لغويّ..
وانتشارُ الأعمال الضعيفة أدبيا ليس مسألةً جديدة على المشهد الأدبيّ في العالم، ففي العصر الفيكتوري مثلاً، كانت بريطانيا تزخر بالكُتّاب الذين كتبوا رواياتٍ نمطية تفتقر إلى الإبداع، وكانت تُنشر رواياتٌ كثيرة متشابهة لكاتباتٍ إناث اقتصرن على تأليف القصص الرومانسية والعاطفية عن الحبّ والقلوب المنكسرة. وفي عام 1856 كتبت الروائية البريطانية جورج إليوت مقالاً تنتقد فيه الوضع الثقافي في بريطانيا وافتقار هؤلاء الكاتبات إلى الإبداع في أعمالهنّ، وعَنونت إليوت مقالها بـ”رواياتٌ سخيفة من تأليف روائيات”، مصنّفةً إياها وِفق أربعة أصناف: التافهة والمبتذلة والمرائية والمتحذلقة.
في هذا السياق، يقول الروائي المغربي عبد الكريم الجويطي: “إنّ الرداءة صفةٌ ملازمةٌ للجهد الإنساني، مثلها مثل الجودة أو الإبداع، إذ لا يوجد عصر أدبي لم يعرف الرداءة، بل لا يوجد عصرٌ لم تتفوّق فيه الرداءة على الجودة وتحجبها، وإن عجزت أن تحاصرها. الأدب العظيم نادر في كلّ العصور”.
تردي الذائقة الأدبية.. من المسؤول؟:
عندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب عام 1988، كان قد قضى عمراً طويلاً في العطاء والإبداع الأدبي وقدّم أعمالاً تستطيع من خلالها فهم مصر وتاريخها الحديث خلال القرن العشرين كله. في كتابه “في حبّ نجيب محفوظ”، يقول الناقد المصري رجاء النقاش عن الأديب المصري الكبير: “لم يكنْ نجيب محفوظ يحبّ السفر خارج مصر، ولا يسعى للاتصال بالأوساط الأدبية العالمية، بل كان يحرص على إعطاء وقته وجهده وتفكيره للإبداع الأدبي والإجادة الفنية، ولم يكنْ يركض وراء أي جائزة كيفما كان نوعها”.
أمثال نجيب محفوظ في الوسط الأدبيّ اليوم نادرون، لكنّهم موجودون، أولئك الذين يكرّسون وقتهم وجهدهم كلّه للإبداع والتفكير والتجريب، دون انشغالٍ بالجوائز والأضواء، أو ركضٍ وراء المناصب والمقامات والألقاب. وهكذا كان الأدب دائماً مع الكبار.
في الطرف الثاني، كتّابٌ منشغلون بالظهور والأضواء أكثر من أيّ شيءٍ آخر، مع ذلك يمتلكون قراءً أيضاً. “لكنّ الفرقَ بين قرّاء الأدب الجيّد والأدب الرديء واضح”، تقول الكاتبة والقصاصة لطيفة باقا، “يمكن اعتبار الكاتب الذي يطرح كتاباً رديئاً أو كتاباً غير ناضج بما يكفي، والناشر الذي يعمل على طبعه، والمؤسسة الإعلامية التي تروّجه، والناقد الذي يقدمه ككتابٍ جيد ويسلّط عليه الضوء.. كلّ هؤلاء مسؤولون بشكلٍ مباشر عن تردّي الذائقة الأدبية وتراجع الحسّ الفني”.
من جهته يؤكد الروائي عبد الكريم الجويطي وجود “رداءة فاقعة الألوان ولا جدال فيها، يعرفها المبتدئ قبل الضليع، ولا شكّ أن يُسر النشر ووسائل التواصل الاجتماعي قد قدّما لهذه الرداءة خدمةً جليلة، حتى إن أصحابها صاروا ينظمون أنفسهم في اتحاداتٍ وروابط، ويغدق بعضهم على بعض الألقاب والدروع والتكريمات”.
لا شكّ أن مواقع التواصل الاجتماعي منحت المساحة الكافية لكثيرين لنشر كتاباتهم الرديئة واعتبارها “أدبا”. يقول المترجم الفلسطيني صالح علماني نقلاً عن أمبرتو إيكو، إن الفيلسوف والمفكّر الإيطالي رأى أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر” منحت حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.
حقل ثقافي فاسد.. أعمال أدبية رديئة:
لكنّ الأدب الرديء ليس فقط نِتاج أشخاصٍ لا تربطهم أي علاقةٍ بالإبداع. الأمرُ أعمَق من ذلك بكثير. “أصبحنا اليوم أمام نسق فسادٍ متكامل، أمام تربةٍ تُنتِج الفساد وتتغذى عليه، وأصبح المثقف والفاعل السياسي مجرّد قطع غيار داخل آلة تمتلك ما يكفي من تقنية لضمان عدم توقف الإنتاج.. فهل علينا أن نستغرب وجود أدبٍ رديء؟ هل يحقّ لنا أن نندهش أمام قوته وانتشاره؟”، يتساءل هشام روزاق، كاتب ورئيس تحرير موقع “مرايانا” الثقافي.
يضيف روزاق: “عند ترييع الثقافة وجعل النشر والأدب والسينما والموسيقى والمسرح مجرد عناوين ضمن جغرافيا الريع والامتيازات، وحين يتحول الأديب والسينمائي والموسيقي والمسرحي والإعلامي إلى مجرد مشروعٍ اقتصادي ينتظر من يموّله، فالمشكل ليس في الفساد الذي يؤدي دوره المؤسّس لوجوده، وليس حتى في المفسدين أنفسهم، بل المشكل في أننا نكاد نصير كلنا رعاة فساد، نقرأ تفاهةً تشبهنا، ونستمع إلى ابتذال يعكس أصواتنا”.
أمام هذا الوضع، لا يبقى أمام الأدباء الجيدين سوى التاريخ لينصفهم. يقولون إن التاريخ يؤدي دائماً عملية الفلترة، ولا يحتفظ إلا بالعظماء.
لكنْ، ماذا سيفعلُ بكلّ هذه الأعمال الرديئة التي وجدت في الأوساط الثقافية العربية تربةً خصبةً لها؟
يجيب الروائي المغربي عبد الكريم الجويطي: “تاريخ الأدب ماكر، ولا يتنازل أبداً، قد تخدعُ مرحلةً، لكنك لن تخدع في الأدب تاريخه، لأنه يعيد دوماً ترتيب الاستحقاقات، ولا يحتفظ إلا بمن يستحقّ. لم تفُز رواية الكاتب الفرنسي سلين (سفر في آخر الليل) بجائزة فرنسية نافست عليها وفازت بها روايةٌ تافهة. لكنْ، من يذكر تلك الرواية اليوم؟ واختار الفرنسيون رواية سلين باعتبارها أعظم ما كُتِب في القرن العشرين”.
المصدر: TRT عربي