في ذكرى محمد بنعمارة (1945 م ـ 2007 م)
ينتمي الشاعر محمد بنعمارة إلى قارة شعرية خاصة في خريطة الشعر المغربي، هي قارة التصوف التي يشاركه فيها بشكل خاص شاعران خصصا كل عملهما الشعري في جغرافيتها، وهما محمد السرغيني وأحمد بلحاج آية وارهام.
انحاز محمد بنعمارة إلى الذات في زمن الصخب السياسي الجماعي والضجيج الإيديولوجي الذي حول كثيرا من القصائد إلى منشورات سياسية محددة الهدف والصلاحية، دون أن يعني ذلك عدم الانحياز إلى قضايا الإنسان البسيط المسحوق تحت عجلات الزمن، من خلال إعلان الانتماء إليه وإلى آماله وأحلامه، ثم الانتماء إلى قضايا الأمة العربية والهوية الإسلامية والانتماء الحضاري إليها، بلغة مضمخة بالرمز الصوفي وبالتأمل النقدي الذي يحتاج إلى قارئ قادر على اكتشاف الشفرات وإدراك المضمرات الثاوية في ثنايا القصائد، خاصة في المرحلة الثانية من تجربته الشعرية التي يمكن اعتبار “مملكة الروح” بداية لها.
ويمكن رصد كل تلك السمات المميزة لتجربة محمد بنعمارة في إبداعاته التي امتدت عبر مساحة نصية تشمل ثمانية دواوين هي: “الشمس والبحر والأحزان” (1972) و”العشق الأزرق” (بالاشتراك مع محمد فريد الرياحي 1976) و”عناقيد وادي الصمت” (1978) و”نشيد الغرباء” (1981) و”مملكة الروح” (1987) و”السنبلة” (1990) و”في الرياح… وفي السحابة” (2001) و”الذهاب بعيدا إلى نفسي” (الذي جمع ونشر بعد وفاته 2007، كما يمكن اكتشاف هوسه بالتصوف الشعري العربي من خلال دراستيه “الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر” و”الصوفية في الشعر المغربي المعاصر: مفاهيم وتجليات”.
إن انحياز الشاعر المبكر إلى الذات كان يجد مرجعه في الشعراء الذي تأثر بهم، خاصة الشعراء الرومانسيين العرب، كإيليا أبي ماضي ونزار قباني، قبل أن يحول الاتجاه إلى التصوف الذي عمق النزوع الذاتي ومنح قصيدته نسغ وجودها، وأعطاها حق المواطنة في دولة القصيدة العرفانية بحثا عن السكينة الروحية، دون أن تهادن في قضايا الذات الجماعية التي اندلعت هنا وهناك على امتداد الوطن العربي والإسلامي.
أينعت موهبة الشاعر محمد بنعمارة مبكرا وحان قطاف ثمارها مبكرا في “البحر والشمس والأحزان” الذي طفح بنزعة رومانسية واضحة لا يخطئها نظر القارئ جرّت عليه سخط شعراء المرحلة ونقادها، المسكونين بنار الإيديولوجيا التي لعنت كل نزوع ذاتي للقصيدة، فكان عنوان ديوان محمد عنيبة الحمري “الحب مهزلة القرون” شعارا لها، فرجم الشاعر وديوانه، لكن الإصرار على اقتراف القصيدة التي تعبر عن دواخل ذات الشاعر بقي متقدا ولم يخمد أواره وإنما تغير اتجاهه قليلا حيث آنس الشاعر في التصوف نارا، فجاء قراءه بقبس منه، مازجا بين منطق القصيدة ومنطق التصوف، فأثمر قصيدة رمزية تعج بالرمز الصوفي وبالإشارة حيث تضيق العبارة. ولعل طرائق الصياغة الشعرية للرمز عند محمد بنعمارة، المتطورة والمتنوعة من ديوان إلى آخر، جعلته يؤسس مشروعا صوفيا خاصا يبني متخيلا جديدا تتكاثف فيه المجازات لتخلق استعارة كبرى تميز هذه التجربة.
(مقدمة مقالة عن “خصوصية القصيدة عند الشاعر محمد بنعمارة” تنشر قريبا)