يعد الشاعر المغربي محمد بنطلحة من بين ابرز الشعراء العرب احتفاءً بالخطاب الميتاشعري، إذ لا يكاد يخلو ديوان من دواوينه من ملامح هذا الخطاب، لكننا سنكتفي بالكشف عنه من خلال ديوان واحد، بلغ فيه هذا الخطاب أوج نضجه، وهذا الديوان هو”سدوم” (توبقال 1992) أحد أهم المحطات في تجربة الشاعر محمد بنطلحة، وقد شكل الخطاب الميتاشعري حضورا لافتا في هذا الديوان، فصنع الدهشة وخلق ارتجاجات عميقة في ذهن المتلقي للشعر المغربي بعامة ولنصوص الشاعر السابقة. فلا يكاد يخلو نص من نصوص “سدوم” من هذا المكون الميتاشعري، الذي يجسد انعكاسا ذاتيا للشعر.
إن نصوص هذا الديوان مرآة لانعكاس ذاتها، أو بعض أجزائها وعناصرها على الأقل؛ فهي تكشف الرؤى الداعمة للتجربة الشعرية من خلال “تمثل ذاتي”، يفضح المواقف المحدِّدة لتصور الشاعر ومرجعياته التي تمثل الخلفية الفكرية والإبداعية، كما يعكس افتتانا ذاتيا لدى النص، يشكل قصيدة نرجسية لا ترى إلا ذاتها، ولا تصغي إلا إلى نفسها. وقد لا نجازف إذا قلنا إن كل نص شعري يحفل بالميتاشعري نص واع بسنده الفكري والفني، وكلما أوغل في ذلك إلا وزاد حظه من النقد والسجال، وقد يصل أحيانا إلى التنظير أو التفسير أو التسويغ لشعرية ما، يمارسها صاحبها أو يدعو إليها ويبشر بها؛ وبذلك يخلق الشاعر من صوته الإبداعي صوتا آخر نقديا، قارئا واعيا بتجربته ونصوصه، شارحا أحيانا تصوراته، مبررا اختياراته الإيديولوجية والفنية، بل ويجعلنا نرى في هذا الخطاب الميتاشعري أحد الطرق التي توصل إلى الإجابة عن الأسئلة الملحة في تصورنا المحدد لشعرية القصيدة العربية بصفة عامة والشعرية المغربية، كما أن هذه النصوص الميتاشعرية تعمل على تقليص المسافة بين الشاعر والقارئ، وهذا القرب هو الذي يمنح المتلقي فرصة الحوار مع النص الشعري، ويمكِّنه من امتلاك أفق انتظار سليم يساعده على القراءة النقدية الواعية، قراءة تدرك طبيعة النص الشعري وطرائق اشتغاله، ذلك أن الخطاب الميتاشعري يمكِّن المتلقي من أدوات تجعله قادرا على التأويل، وتدفعه نحو التساؤل الخلاق.
يمكن أن نلاحظ أيضا أن الخطاب الميتاشعري عند محمد بنطلحة ساهم في وسم ديوانه بخاصية الغموض؛ إذ يتسرب هذا الخطاب إلى النصوص في تشكيل قوي الكثافة؛ تشكيل من الرموز والأساطير، ومن الانزياح الصانع لصور متشابكة ومركبة لا تفصح عن مكنوناتها إلا بصعوبة. إنها نصوص مربكة، تحدث الدهشة، وتحتاج إلى قدرة هائلة من التأويل لكشف مكنوناتها الدلالية المستعصية على الإدراك السهل. إنها نصوص ملغومة، ذات طبيعة رؤياوية تسافر في ثنايا النص عبر الأقنعة، وتتوغل عبر الرموز.
إن ديوان “سدوم” تجربة متفردة في القصيدة المغربية، لقدرة الشاعر محمد بنطلحة العجيبة على صناعة الدهشة، ولقوته الإيقاعية والتصويرية، وذلك من خلال شعرية الغموض والاحتفاء بالأساطير من جهة، ومن جهة ثانية عبر صناعة الرموز الذاتية التي أهّلت الديوان للتفرد، وليكون بصمة واضحة في تاريخ القصيدة المغربية الحديثة.
(جزء من دراسة ضمها كتابي: “الرؤيا والتشكيل في القصيدة المغربية المعاصرة” منشورات مكتبة سلمى ـ تطوان 2013)