أثينا، المدينة الساحلية الوحيدة التي لا يوقظها صياح الديكة بعد انكماش العتمة، بل يرفع عنها غطاء النوم بوسيديوم وحده، تترك خيوط الشمس لكي تتسلل بسلام إلى فراش شيشنق لتداعب يقظته بهدوء، يستيقظ بنشاط ويستعد ليومه، يومه ليس كسائر الأيام، فهو أول يوم له في رحاب بيت الحكمة والحكماء.
ارتدى ملابسه ومشط شعره وأصلح من شأنه، مد يده نحو الطاولة الصغيرة قرب سريره الخشبي ليلتقط قلادة أمه التي رافقته طوال رحلته حتى يستأنس بروحها في يومه ويأخذ قطعه الفضية، لم تلامس يده إلا خشونة الخشب وبرودة دسره. التفت بريب نحوها، قلّبها، بحث تحت السرير وفي كل أرجاء الغرفة المتواضعة فلعله أسقطها والقطع الفضية دون أن يشعر أو يحس بذلك، لكنه لم يعثر على شيء.
أخذ بعزمه وقد توضح له الأمر، ونزل من طابق غرفته قاصدا صاحب الفندق وزوجته الثخينة، وصل إلى الطابق السفلي ليصادف رجلا يخرج من حجرتها المجاورة للمطبخ، علم من زوجها أنه الطبيب الذي قد أتى على وجه السرعة ليتفحص أذنها المصابة، فهي لم تنم طوال ليلتها من شدة الألم، كان لا بد أن تجري عملية بسيطة لإيقاف نزيفها الحاد. تأملها شيشنق ولم تلزم غرفتها للاستراحة، بل أخرجا فضولها المستحكم كأول قدومه، فلاحظ أنه قد جرت بوجهها بعض مياه التعافي مقارنة مع يوم أمس.
لم يخبرهما بحادث اختفاء أغراضه بل طلب فطورا يسكت به أمعاءه الخاوية، جاءه الزوج ببعض البيض والفول والبصل وقدمه إليه بصحن خشبي أشبه ما يكون بصحن علف بهائم، صرخ شيشنق في وجهه وطلب منه إحضار فطور يليق بالسادة. ما إن وضعه على القطعة الخشبية أمامه التي تشبه الطاولة حتى أمسك بمعصم يده وثنى كفه عنها بقبضة شديدة كادت تفصله عن باقي يده وأدنى أذنه من فمه وهمس له بهدوء:
– إنها قلادة أمي، وهي كل ما أملكه هنا من رائحتها.
أطلق جرجس صرخة استغاثة وتوسل إليه ليفلته حتى كادت دموعه أن تنسكب على خديه كالعذراء:
– هل تقصد تلك القلادة الصفراء الذهبية التي تشبه عين الشمس يا سيدي؟ لقد عثرنا عليها يوم أمس، وكنا ننتظر فقط أن يظهر لها صاحب أو من يسأل عنها حتى نسلمها له، لم نتوقع أبدا أنها لك.
– أراني نزيلكم الوحيد في وكر الفئران هذا فلمن تظنونها إذاً، هذا إذا سلمنا أنها قد وقعت مني، ذاكرتي لا تخونني أبدا، وأعلم جيدا أني وضعتها يوم أمس بغرفتي وأنا أتهيأ للنوم، مثلها مثل قطعي الفضية -رد متوعدا شيشنق-.
– نقود فضية! لم نر منها إلا القطعة اليتيمة التي دفعت بها إلينا أول نزولك عندنا -راوغ جرجس-.
– هل وقعت عينك على قطع فضية أخرى بخيتا؟ -سأل جرجس-.
– لا.. لا أبدا عزيزي، لكنني سأتفحص الغرفة حالا -أجابت بخيتا بمكر-.
صعدت مجهدة السلالم الآيلة للسقوط سلما سلما وهي تستند إلى الحائط كامرأة حامل، غابت بضع لحظات ثم عادت والبسمة تكسو وجهها وكأنها هلت ببشرى من الجنة:
– سيدي الأمازيغي لقد وجدت قطعتك النقدية تحت مخدتك، يبدو أنك لم تفكر في البحث عنها في ذلك المكان.
– أرأيت يا سيدي، -قال جرجس وهو يفلت من قبضة شيشنق ويحس بنجاته من موت محقق-، لابد وأنك وضعتها تحت وسادتك لكنك لم تتذكر بسبب طغيان التعب والنوم عليك يوم أمس، كان التعب والإجهاد واضحين عليك أول ما وصلت.
– أيها اللصان، سيكون حسابي معكما عسيرا حينما أعود -توعدهما شيشنق-.
وكأن تهديد شيشنق وجد صداه في قلوب أولئك المصريين الخربة هذه المرة، فحاولا أن يهدئا من روعه.
– سيدي، لا تغضب، أنت تعلم أن الفقر قبيح وهو يدفع المرء أحيانا إلى ارتكاب حماقات، لكننا سنرضيك، أنا وزوجتي سنرضيك حتما، ولن تخرج من خاننا اليوم إلا وأنت على أفضل ما يرام -بادره جرجس-.
– وكيف ذلك؟ -تساءل شيشنق-.
– أنا وزوجتي خدمك -أجاب جرجس-.
– أنت وزوجتك خدمي، أو لستما كذلك أو على الأقل في حكم ذلك؟ -تعجب شيشنق-.
– أقصد أن زوجتي ستكون جاريتك و.. -خفت بها جرجس وهو يبتسم ابتسامته البلهاء نحو وزجته ويغمز بعينه اليسرى نحو شيشنق-.
– عليك اللعنة أيها المصري أنت وزوجتك، لم أر أحقر ولا أرخص منكما منذ خرجت من بلاد النهر، أغربا عن وجهي، هيا اغربا -صرخ فيهما بغضب شديد-.
ركل الباب بقدمه اليمنى وخرج مكفهرا من هول ما سمع، لقد تأخر كثيرا عن موعد مجلس الحكماء، ولابد أن الدرس يكون قد فاته الآن، يقولون أن الحكيم الأعظم يحب أن يرى تلامذته في المجلس جميعا حين يخرج عليهم، ولا يحب أن يقطع عليه حضور أحدهم درسه.
كان يانس في انتظاره كحاله يوم أمس، كل ما تغير فيه هو لباسه اللائق هذه المرة وقبعته الجميلة المضحكة.
– صباح الخير أيها السيد الأمازيغي -بادره يانس-.
– صباح الخير، تستطيع أن تدعوني باسمي: شيشنق.
– حسنا سيد شيشنق -أجابه مغتبطا-.
أطلقا أقدامهم للمشي في اتجاه وسط المدينة حيث مدرسة الحكماء.
– شيشنق، كأنه اسم قائد عسكري أو عظيم أو محارب، أو ربما ملك! -تساءل يانس-.
– ملك! مخطئ أنت يا بني، أنا أبسط مما تظن، أنا طالب علم لا غير-رد بتواضع شيشنق-.
– طالب علم، نعم طالب علم كل جراحاته على هيأة الماء والصخر – أجاب بلباقة يانس-.
– ماذا؟؟ – استغرب شيشنق-.
– يبدو أن الفندق لم يرقك! -سأل يانس-.
– هذا ليس بفندق ولا يمت إلى ما عرفت من الفنادق بصلة، هذه حظيرة ماعز مصرية، ويحك كيف خدعتني؟ -غضب منه شيشنق-.
– لم أخدعك سيدي لكني أردتك أن تأخذ نظرة عن قبط أثينا، إن سمعتهم هنا لا تتجاوز سمعة اللصوص والقراصنة إلا بكونهم من إقليم قطفير أو معظمهم على الأقل-برر يانس-.
– نعم سمعت قصصا كثيرة عن هذا الإقليم وسكانه -قال شيشنق-.
– هل عرضها عليك؟ -أضاف يانس-.
– من تقصد؟ -تساءل شيشنق-.
– بخيتا، زوجته؟ -رد يانس-.
– ماذا؟ -تعجب شيشنق-.
– إذاً لقد عرضها عليك، تلك هي تجارتهم الوحيدة التي لن تعرف كسادا في أثينا. -عقب بحرقة يانس-.
– لكني.. -عقب شيشنق-.
– أعلم أعلم، أنت سيد وحكيم، ولن تنحط إلى مستوى هؤلاء البهائم أبدا -قاطعه يانس-..
أطلق رجليه للريح أسرع من شيشنق، كانت قوة الفتيان تسري في دمه وتضخه نشاطا يعجز عنه حتى أقوى الرجال، حاول شيشنق أن يساير خطاه لكنه لا يريد أن يصل محل الدرس مبللا بعرقه، حافظ على اتزان خطاه وظل يراقب يانس وهو يتقدمه ويبتعد عنه قليلا قليلا.
– هذا بيت الحكمة والحكماء، أراك لاحقا، ثم ودعه وانصرف.
همس له بصوت مرتفع قليلا تأكد بالتفاتته إليه أنه قد سمعه وفهمه، تركه أمام البوابة الحجرية الكبيرة ذات الكل المستطيل، المزينة بالأعمدة الشاهقة، وانطلق في جريه الذي يشبه القفز. اندهش شيشنق أمام المعمار الجميل، وتأمل الوجوه المشرقة بالعلم والمعرفة، وتقدم إلى داخل الساحة المستديرة. لفتت انتباهه تلك الزرافات الكبيرة من الطلبة التي تتصفح أوراقا أو تتأبطها أو تحملها في شكل مكدس ذات أحجام كبيرة لاتكاد تسعها أذرع الشباب المتحمس لكل هذا العناء، أوراق أخف وأجمل تتجلى الكتابة فيها بشكل أرقى وأيسر، مقارنة مع أوراق البردي التي كانت تتمزق في يديه وتنكسر بسهولة وتعقد عملية التحصيل، يبدو أن هؤلاء الإغريق لا يحلمون فقط في عوالم الميتافيزيقا والعوالم الوهمية، بل ويحسنون أيضا حفظ نظرياتهم في أوراق تليق بما ابتكروه وطوروه من أحلام.