قراءة في قصيدتيْ: موعد الحب الأخير وأحمر على شفاه البرزخ للشاعر أحمد حضراوي – جميلة بالوالي

0
74


يتحدث الشاعر في القصيدتين عن لقاء الحب وهو الموضوع المستهلك في قصائد شعرية كثيرة، وفي الأدب بصفة عامة وفي الحياة اليومية للعاشقين أيضا.
لكن الشاعر أحمد حضراوي يتناول الموضوع بشكل مختلف كما في الكثير من قصائده ومنها قصيدة “الجحيم يليق بك”، والتي سبق وأن خصصتها بقراءة نقدية، حيث يقول فيها فيما يقول:
أنا لم أكن يوما هناك ولا هنا
بل بَين بَين فليس تغريني القُبلْ

ولقد ذكرنا أن الحبيبة كانت مجرد طيف من وحي خيال الشاعر، واللقاء معها لا يتم إلا داخل القصيدة وينتهي بانتهائها. فالشاعر لا يبحث عن القبل والشهوات بقدر ما يبحث عن روحه التوأم..
في القصيدتين اللتين بين أيدينا، يتحدث أحمد حضراوي عن الموعد وعن اللقاء، ولعل من لا يعرف الشاعر وتشبعه بالثقافة الصوفية حتى النخاع وحرصه على التمسك بأخلاق الشاعر الصادق الرومانسي، قد يظن أنه يقصد اللقاء مع امرأة بعينها، وما قد يترتب ويتمخض عن هذا اللقاء من قُبل وشتى أنواع الاستهلاك المادي للحب.. وغالبا ما يتوقع الناس في مجتمعنا الغارق في معتقداته البالية والمتورط في الطابوهات منذ القديم، أن الحب بين الرجل والمرأة لا يكون إلا إذا استحضرت فيه الغرائز والشهوات! لكن لعل شاعرنا بإحساسه الراقي وأخلاقه السامية لا يشير إلا إلى لحب العذري كما في جل قصائده. فذاك الأحمر على شفاه البرزخ قد لا يكون سوى كناية عن العبور إلى عالم آخر أفضل بكثير من العالم المادي الذي نعيشه، عالم الجنان والحوريات والحب الدائم الموصول بحب الخالق كما يتصوره الصوفيون. والبرزخ هو “عالم البين بين” بين الموت والحياة.. ولعل شاعرنا يعتبر نفسه مجازا ميتا على هذه الأرض التي لم تمنحه أبدا كل ما يصبو إليه:
لقد انتظرتُ ولم أزل متأمّلا
أيُصَبُّ بعض الماء في كبد الغدِ؟
أم أن وجه الراحلات بقربه
نصف السراب ونصفه الوهم الردي

السراب والوهم، هذا ما ناله الشاعر في هذه الحياة من قصص الحب، التي حطمت قلبه وأرهقت أحاسيسه وأشعاره:
الآن أُرهِقُ كل طهر كتابتي
في محفلٍ صلواته أشكالُ

لن يكون هذا المحفل إلا في آخر مشوار الكتابة التي يصفها الشاعر بأنها طاهرة رغم كل ما يمكن أن تحمل من معاني الإغواء والإثارة، لأنها تبقى في النهاية حبرا على ورق. ولعل “الآن” لا تشير هنا إلى الحاضر بل إلى المستقبل كما يرجوه ويتمناه الشاعر.

نقط النهاية طالما قد تحتفي
بهزائم في شكل نصر سرمدي
هزائم الحب كثيرة ومتنوعة وهي لا تعني بالضرورة استحالة الوصول إلى الحبيبة.. بل قد تشير أيضا إلى عدم القدرة على خلق علاقة مفعمة بالحب والتفهم وخالية من العتاب من كلا الطرفين.

لما رأت غضب العبارة في فمي
ضحكتْ كما دأبتْ بكل توددِ
مرتْ على لغة العتاب بغنجها
ما أسفرت إلا مرايا في يدي
ضحك وتودد وتفهم وغنج الأنثى مقابل غضب الشاعر الذي -كما معظم الرجال-، يبحث عن الأنثى المتفهمة التي تحتويه بدلالها وتسامحها، ولا تلومه ولا تعاتبه أبدا. بل على العكس من ذلك، لا تمل ولا تضجر من استيعاب الشاعر، وتقبله حتى وهو يعبر عن أعنف حالات مزاجه.. لكن ربما يشفع له كونه صادقا ومحبا وعاشقا ولهانا:

لكن قلبي لم يكن إلا كما
أسطورة تُحكى لمهد المولدِ
يتحدث الشاعر هنا عن الحب الأسطوري المثالي الخالد الذي تحكيه الجدات للأحفاد.. حب بلا أهداف مادية ولا جسدية ولا غرائزية حتى، حب من أجل الحب لا غير!

أحمرٌ على شفاه البرزخ – أحمد حضراوي

يا أول امرأة وآخر طفلة
بدءُ القصائد في جميل تجرُّدي
ولعله يعني التجرد الكامل من الجري وراء الشهوة، لأن المرأة التي يخاطبها هي أيضا تلك الطفلة البريئة النقية والسامية الأحاسيس والمشاعر.. ومن يعشقها لا يمكن إلا أن يكون في مستوى براءتها وطهرها.

عتبات ليلك نبع كل بشارتي
تنمو بجب عناقه الأحبالُ
وبصبر طول مقامه قُبلٌ تُرى
بين الظلام فتُصقَلُ الأحوالُ
كان اللقاء وكنتِ أول برزخي
وعصارة التأويل حين تُنالُ
يشير الليل إلى الحلم ويرمز الجب إلى المعاناة، وقد يُفسَّر الظلام على أنه ظلمة القبر التي يأتي بعدها البرزخ.. فالمرأة التي يحلم بها الشاعر ويتمنى أن يلقاها بعد طول مقام وانتظار هي عصارة التأويل التي لا توجد إلا في خيال العاشق، وكأنها الخمرة التي ستروي عطشه بعد شدة الظمأ.

لما تكون يداك لي مشتاقة
كل العروق يسوقها الترحالُ
في غفلتين ولحظة مجنونة
غرق الجدالُ فموجه محتال
يخاطب أحمد حضراوي الحبيبة الغائبة التي لا يمكن رؤيتها إلا بعد الرحيل! لكن عن أي رحيل وعن أي سفر يتحدث الشاعر؟ إنه السفر إلى ما بعد البرزخ! “في غفلتين ولحظة مجنونة”: غفلة الحب وغفلة الموت ربما، وكلاهما لحظات جنون وغرق تتغير فيهما المشاعر 180 درجة وتتبدل بهما الأحوال والآمال:

وتغيرت صفة الحنين وبثه
ما اصطكت العثراتُ والآمالُ
جراح الحاضر ومآسيه تجعل شاعرنا يتوق للغيب، ويتمنى كشف الحجاب عنه كما يتمنى الصوفي الوصول إلى أعلى درجات التقرب من الآخرة ومن تجلياتها:

الغيب في صمت المكان مؤجج
وجراحه في لهفة تختالُ.
حبيبة الشاعر هي فقط تلك المرأة المستحيلة التي تغير كل مجرى حياتها من أجله، وتنهي كل حكاياتها ورحلاتها كي تنضم إليه في رحلته العنيدة، نحو المغامرة وركوب بحر الغواية.. وبدل تفاحة آدم وحواء الوحيدة، يزرع الشاعر التفاح في طريق معشوقته لأنه عازم لا محالة على إيقاعها وإغوائها، لكن لا ليخرجها من الجنة بل ليُدخلها إلى جنة خلده كما يتخيلها ويصنعها بنفسه.
تنهي بدايتها لتبدأ رحلة
أخرى إلى كنف العناد الأعندِ
كانت ولم تزل الحكاية نفسها:
الذنب في وجه البراءة يغتدي
وكأنني من يزرع التفاح في
خطواتها في جنة الزمن الندي

موعد الحب الأخير – أحمد حضراوي

وتأتي القصيدتان عبارة عن دعوة للحب وللقاء الحب، أو للقاء بعد غياب يدعو فيه الشاعر أحمد حضراوي حبيبته -التي قد لا تكون سوى طيفا، لأن لا أظافر لها ولا مخالب ولا تشبه النساء في طباعهن- للتمرد على كل شيء والرجوع إليه وإلى كنفه:
كُوني كما طبع النساء وجمِّعي
كل الأظافر في الهَوى وتمردي
أنا لم أكن لك لعبة كي تمرحي
في غمرة الإحساس ثم تسددي
لك كل حِلمي حين يثمل فانظري
درب الرجوع لطاعتي، وتجددي

لكن سرعان ما يعود ليهددها ويذكرها بأنه قادر على نسيانها كما ينسى الكثيرات ممن سبقنها في جل قصائده:
إن لم يلق بك فاشهدي ولتُسهدي
ما كنتُ للأيْمان همزة أحمدِ..

وهو الذي تحدث عن إسدال الستارة على الحب وعلى آخر مشهد منه منذ بداية قصيدة “موعد الحب الأخير”، إذا كان هذا الحب لا يمنحه ما يريده منه ولا يحترم شروطه وطريقة رؤيته له.
ولعل من أجمل ما في هاتين القصيدتين قابليتهما أيضا لأن تئولا بالمعنى الحرفي البسيط للقاء الحب الذي قد يكون لقاء عاديا بين عاشق ومعشوق.. ولا شك في أن من طبيعة الشعر استعمال المجسد والمشخص للتدليل على المجرد.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here