مدينتان في واحدة، شطر شرقي تمرّد على ماضيه الشيوعي وآخر غربي يتمسّك بقيم الديمقراطية الليبرالية، وبينهما تعاون حثيث في تركيب ثقافة وهوية موحّدة تتجاوز الاثار النفسية والثقافية لحقبة الجدار العازل. تسمى أيضا “المدينة الرمادية” وهي كناية مزدوجة عن حالة الطقس التي تُديم الضباب فوقها وأيضا الحقبة النازية بين أواخر العشرينات وقيام الحرب العالمية الثانية. تمرّ عبر بعض الأحياء السكنية غير بعيد من بقايا جدار برلين، فتستوقفك مربعات نحاسية مغروسة على وجه الأرض تخلد ذكرى من سكنوا في تلك المنازل قبل أن تعرّضوا للتهلكة خلال إبادة عدد من اليهود أيام الحكم النازي.
اشتهرت برلين تاريخيا في القرن الثالث عشر الميلادي بفضل موقعها بين طريقين تجاريين. وأصبحت عاصمة للمرة الأولى خلال حكم مملكة براندونبورغ (1701-1417)، ثم مملكة بروسيا (1918-1701)، وبعدهما جمهورية ويمار (1933-1919). وأصبحت في العشرينات من القرن الماضي ثالث أكبر تجمع حضري في العالم.
وخلال الجولة وسط برلين التي يسكن فيها 3.5 مليون نسمة ويفوق عدد زوارها سنويا ذلك ب3.7 مليون سائح، تتعدد المتنزهات بين بوابة Brandenburg التي تم ترميمها في القرن الثامن عشر بأعمدتها الإثني عشر الشهيرة، ومسلّة Fernsehturm التي شيدتها حكومة ألمانيا الديمقراطية بين 1965 و1969 كرمز لقوة الوجود الشيوعي في برلين، فضلا عن كاتدرائية برلين الشهيرة.
ممّا استوقفني بشكل خاص كثرة المحال وقاعات العرض أو الصالونات التي تقدم أعمالا فنية وأدوات وملابس تنمّ عما يفوق فلسفة ما بعد الحداثة. تجذب المدينة إليها أيضا من يعرفون بالمتعيون (من متعة) hedonists ومحبّو الجاز hipsters وهم المغرمون بإقامة حفلات الأكل والشرب تستمر لأيام وليس مجرد ساعات.
في الطريق نحو معهد سرفانتيس، يستهويك الجلوس في “مقهى أينشتاين” Einstein Kaffee، فتسرح في تفكيرك حول نسبة ذكاء هذا العالم وسرّ ألمعيته في تحديد نظرية النسبية وهل ساعدته جينات معينة أو خلايا ذكية في دماغه في تكريس عشر سنوات من أبحاثه للتوصل إلى نظرية النسبية العامة. تحتسي فنجان قهوتك في هذا المقهى الأنيق، وتسأل نفسك كيف يمكنك أن تدخل التاريخ إذا استطعت استخدام مجرد نصف عشر الواحد في المائة (0.5%) إضافي ضمن قدرات دماغك كمحرك للعقل بدلا من مجرد 10% التي نتعب بها أدمغتنا، فيما تبقى 90% الأخرى في حالة جمود!
وجدتني مضطرا لركوب سيارات الأجرة باستمرار لحضور عدة اجتماعات رسمية ولقاءات ودية في مدينة مترامية الأطراف. لكن موديلات Mercedes وBMW لم تثر نشوتي. فقرّرت البحث عن سيارة، لا ككلّ السيارات، أوكد من خلالها أنّي رجل ما بعد الحداثة في مدينة ما بعد الحداثة! ساورني الأمل ايضا في أن أتفوق بها على شهرة سيارة Mr. Bean.
فقادتني مسيرة البحث والتنقيب إلى محل برلين حيث وجدت سيارة بألوان زاهية فاقعة إلى حد الإنفجار (الصورة)…! لكن ثمة مشكلا لم أتوقعه عندما تنافس معي على شرائها Santa Claus المعروف بالبابا نويل، وهو يقول إنه سيستخدمها في الإسراع بإيصال الهدايا إلى أطفال برلين هذا الموسم.
لم أتقبل خسارة التنافس مع البابا نويل، ولم يكن ما ينفعني في تجرع مذاق الهزيمة سوى أن أعرّج على محل بيع شكولاتة Lindt السويسرية الشهيرة منذ عام 1845. أكلت بضع قطع من أصناف متنوعة وابتسمت، لكن صوتا في رأسي حرضني على العودة بعد عيد الميلاد لعلي أشتريها بسعر أفضل مع أحقيتي في التفاخر بأنها سيارة تحمل بركة تقي الله باب نويل…!