وما كفر سليمان – جميلة بالوالي

0
286

 

    كنت في مكتبي حوالي الساعة السابعة مساء .كانت التلميذات المقيمات بالداخلية قد تناولن وجبة العشاء و عدن للمراقد ليأخذن قسطا من الراحة قبل الذهاب للمطالعة ..سرحت قليلا في الكلام الذي قاله لي أحد الزملاء ذلك الصباح بعدما زار مكتبي ” هِيَ دَابَا هْنَا فِينْ كَتحّكْمِي! ” ابتسمت مجددا ..ليته يعرف كم أعاني هنا !

  كنت قد قضيت ثلاث عشرة سنة في التدريس عامين منها في مدينة تارجيست التي تبعد بحوالي ساعتين عن مدينة الحسيمة وإحدى عشرة سنة الأخيرة في إقليم الناظور. بعد حصولي على شهادة الإجازة كان حلمي الأساسي هو العمل وبعدما أصبحت أستاذة للتعليم الثانوي التأهيلي أجلت كل أحلامي وأصبح حلمي الوحيد هو الانتقال إلى مدينة وجدة كي أعيش بالقرب من عائلتي وأستطيع تقبيل يدي أمي وسماع صوتها واستنشاق عطرها الطبيعي متى شئت. كان الانتقال إلى مدينة كبيرة كمدينة وجدة شبه مستحيل وكانت أختاي حبيبة وخديجة تسعيان لنفس الحلم منذ أكثر من ثلاثين سنة مضت .بعد المشاركة في عملية الحركة الانتقالية الوطنية الخاصة بهيئة التدريس التي تنظمها الوزارة كل سنة لكن دون جدوى ،قررت أخيرا أن أشارك في الحركة الإدارية لأُعيّن كحارسة عامة للداخلية في نفس المؤسسة التي كنت أعمل بها على أمل الانتقال بعد ذلك لمدينتي الأصلية،بعدما قيل لي أن حظوظ الإداريين في الانتقال أوفر.

   لم أكن أعرف الكثير عن المسؤوليات التي كانت بانتظاري فأنا لم أفكر يوما في أن أصبح إدارية رغم كل المعاناة التي كنت أعيشها داخل الفصل مع جيل من التلاميذ أصبح يدرك حقوقه أكثر بكثير مما يعرف واجباته.وجدت نفسي في أحضان المغامرة فلا أحد يجهل كم نخاطر من أجل أحلامنا ! فجأة أصبحت مسؤولة عن مجموعة من الفتيات في سن المراهقة مسؤولية شبه تامة.. وما أدراك ما سن المراهقة  مرحلة الإحساس بالنضج واختبار المشاعر المختلفة والرغبة في تغيير العالم مع تلك الحساسية الزائدة تجاه كل شيء والنظرة المبالغ فيها للأمور.لم أكن أنعم بالراحة إلا نادرا فبالإضافة إلى أوقات العمل- التي لم تكن تناسب أسرتي الصغيرة لأنني كنت أذهب للعمل في الأوقات التي كانت بناتي تعدن فيها من المدرسة للبيت – كنت أحيانا أضطر لمرافقة التلميذات ليلا إلى المستشفى بعد إصابتهن بمرض أو حادث.ولقد كان هذا الأمر يربك بناتي ويزعجهن كما كان يثير الفوضى والرعب في صفوف الداخليات.

  كنت على هذه الحال أحرر التقرير اليومي وأنا أفكر في أحوالي وقلة حظي حتى سمعت الطرق بشدة على الباب الفاصل بين الجناح الإداري و جناح إقامة التلميذات ..يا إلهي ليلة أخرى سوداء ماذا وقع ياترى ؟ هل تخاصمن أم مرضت إحداهن أم ماذا بالضبط ؟ فتحت الباب بسرعة وصعدت السلالم مهرولة :

-” سكينة يا أستاذة ..إنها سكينة ” ..

– ما الأمر ما الذي أصابها ؟ 

– تعالى لتنظري بنفسك!

   دخلت المرقد ،وجدتها ممددة على الأرض ترتجف بكامل أعضاء جسدها ،ممسكة على يديها بقوة ،متشنجة إلى أقصى درجة ..عينان شاردتان لا تنظر بهما إلا إلى الأعلى ..وكانت التلميذات اللاتي أحطنها وهن يبكين قد ألقين عليها إزارا أبيض بعدما شغّلن سورة البقرة على الهاتف ..صُدمت للوهلة الأولى وخيل إلي لبعض الوقت أنني أعايش لحظة احتضار سكينة .جمعت أنفاسي وقررت أن أتحلى بالقوة والشجاعة ليس لدي خيار آخر .سألتهن :

“- ما الذي يقع هنا؟

-انظري أستاذة إنها مسكونة ..مسكينة سكينة الجن يسكنها وسوف يقْضي عليها!

وكانت الفتاة كلما سمعت ” وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا” ،أخذت ترتجف أكثر فأكثر وتصرخ وعيناها لا تزال شاخصتين ..

سألتهن عن السبب فأكّدن لي أن من يتفاعل مع هذه الآية بالذات فإن الجن يسكنه!

يا إلهي ! الجن مرة أخرى ! لن ينتهِين أبدا من هذه الترهات !

صرخت بأعلى صوتي هذه المرة:

“- اخرجن جميعكن ..اُتركنني معها لوحدنا”

اصطحبتها إلى مكتبي بمساعدة المعلمة الداخلية وهي إحدى التلميذات المسؤولات عن المرقد أثناء غيابي..

 “- ابنتي أنا لا أومن بهذه الخزعبلات ! عليك أن تصارحيني بالحقيقة ،ما الذي جرى ؟ أهو معدل الدورة الأولى والعلامات الضعيفة التي حصلت عليها؟ أهذا ما يزعجك ؟ حاصرتها بأسئلتي بعدما لاحظت أنها هدأت قليلا .

-كيف عرفت أستاذة ؟

-بالتأكيد أنا أعرف كل شيء عنكن فهذا واجبي .ابنتي لا ينبغي أن يزعجك هذا الأمر ..عدم التوفق في الدراسة لا يعني نهاية العالم ..معروف أن للإنسان ذكاءات متعددة وقد تنجحين في أشياء أخرى أفضل بكثير .. أنصحك بتغيير الشعبة ..قد تناسبك شعبة الآداب الإنسانية أكثر.

-أنا! أغيّر الشعبة! لا لن أفعل ذلك أنا ذكية وقادرة على مسايرة الشعبة العلمية ..أجابتني بانفعال شديد اعتقادا منها أنني جرحت كبرياءها! وأخذت تضرب على الطاولة وتصرخ وتندد رافضة اقتراحي ومصرة على إبداء غضبها إلى أقصى الحدود ..وفجأة ضربت زجاج النافذة ضربة قوية حتى كسرته وهي تقفز في المكتب كالمجنونة ..

لم أجد بدا من أن أهددها بمجلس تأديبي محتمل إن هي استمرت في صراخها وعنادها ..وأنا التي لم أكن ألجأ لتلك المجالس إلا نادرا.شيئا فشيئا استعادت هدوءها فطلبت منها الجلوس مناولة إياها كأس ماء .تناولته وهي لا تزال ترتعد قليلا ثم قدمت لي اعتذارها وطلبت مني أن أسامحها على كل ذلك الإزعاج والفوضى والوقت الذي ضيعته معها بدل أن أقضيه مع بناتي على حد تعبيرها.

-لا عليك سكينة ،لكن حاولي من الآن فصاعدا أن تواجهي الصعوبات التي تعترضك وأن تبحثي عن الحلول بدل الهروب والتستر وراء التفاهات وكوني متأكدة أنني هنا لأساعدك .لكن عديني بأن تدعي سليمان والجن  وشأنهم.

       فتحت باب المكتب من أجل الانصراف.. وفجأة انفجرت التلميذات اللاتي كن يُنصتن من وراء الباب بالضحك . قلن لي بعدما غادرت سكينة ” كان التهديد بالمجلس التأديبي حلا سحريا!”.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here