كانت الساعة تشير إلى حوالي السادسة صباحا عندما رن جرس الهاتف، “الله إي سمعنا اسماع الخير في هذا الصباح الباكر”، هكذا دمدم محمد وهو يشرب قهوته استعدادا للذهاب إلى عمله. في البداية تردد في تناول الهاتف والرد على مخاطبه.
يرتعش جسمه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه كلما سمع جرس الهاتف في الصباح الباكر أو في المساء، يصيبه الخوف مما يمكن أن تحمله الأخبار من الوطن الأم، لاسيما وأنه ترك والديه هناك ليستقر بديار المهجر. في الأخير اقترب من الهاتف ونبضات قلبه تدق بسرعة: “السلام عليك”، أجابه مخاطبه بصوت خافت متهدج وكأن البكاء قد نال منه نصيبا: “أخي، رحم الله أبي -أردف قائلا- توفي فجر هذا الصباح”.
كاد الهاتف أن يسقط من يد محمد، اتسعت عيناه من الدهشة لسماعه الخبر المحزن. لم يصدقه بداية لكنه سرعان ما فكر في حالة أبيه قيد حياته، كان يعاني من المرض منذ سنين عديدة. توجه لله بالدعاء له بالرحمة والمغفرة، لم يستطع حجب الدموع التي ذرفت من عينيه، واكتسحه شعور بالذنب لعدم مؤازرته والده في لحظات الشدة. فكر في أمه التي تعول عليه كلما حدث حادث، فكر في إخوته وتحملهم متاعب العزاء الذي أصبح يكلف العائلات معنويا وماديا. يا لها من حياة تلك التي يعيشها المهاجر المكبل الذي لا يستطيع الوقوف بجانب عائلته في مثل هذه المواقف. فقدان الأب خسارة كبيرة، فقد كان مصدر استقرار العائلة بأكملها، سوف يترك فراغا كبيرا.
كل تلك الأفكار زاحمت فكره لعدة دقائق، هي فعلا لحظة من اللحظات المؤلمة السوداء في سجل كل مهاجر بعيد عن أهله. إن كانت الهجرة تكسب صاحبها ماديا وتوفر له ما لم يحصل عليه في بلده الأم من مستلزمات الحياة اليومية، فإنها تفصله عن الوطن والأحباب خاصة الوالدين، تفصله عن مسقط رأسه وعن الذكريات التي هي جزء منه ومن شخصيته في عالمنا هذا. لحظة تغيب فيها إيجابيات الغربة عن ذهن المهاجر لتطغى السلبيات على فكره ويشمئز من وضعيته المريحة بعيدا عن والديه.
ظل للحظات يتأمل وضعيته بعيدا عن أمه وعائلته الكبرى. لم يستطع النطق ولو بكلمة، بل ظل واجما جامدا لبعض الدقائق لا تفارق عيناه صورة أبيه، إلا قطته التي اقتربت منه لتحييه كما تفعل كل صباح باكر أو عند عودته من عمله. لم يكن ينتظر هذا الخبر المؤلم، إنه يوم مشؤوم تألم فيه مبكرا
بعد أن استرجع قواه، تناول الهاتف واتصل بأخيه ليطمئنه على فعل كل شيء من أجل السفر إلى لوطن ليقف بجانبه وجانب إخوته في هذه المحنة.بعد ذلك، أيقظ زوجته ليخبرها بأمر الله وقدره، وفاة أبيه. حار في أمره، ماذا بوسعه فعله والناس نيام؟ ترك الأبناء لوحدهم يزيد من ألمه، إنها ديار الغربة، كل واحد يهتم بنفسه وعائلته، مجتمع تحكمه الأنانية والعزلة عن الآخرين. تذكر ما قالته له أمه حينما زارته بفرنسا. بعد قضاء أسبوع برفقته، قررت الرجوع إلى الوطن دون إطالة.لماا سألها عن السبب أجابته والدموع تذرف من عينيها: “في بلدي، منزلي مفتوح للجيران، وأسمع أذان الصلوات الخمس”. أردفت قائلة: “أما هنا، فكل شيء مسدود، أبوابكم مسدودة”. اختتمت كلامها بقولها: “اشتقت للجيران والمارة بالحي، اشتقت إلى سماع كلمة السلام عليكم”.
الشيء الوحيد الذي أصبح متيقنا محمد منه هو سفره للالتحاق بالوطن في أسرع وقت ممكن للوقوف بجانب أمه والعائلة. قام من مكانه ليهاتف مقر عمله في حدود الساعة الثامنة، ويخبرهم بالنبأ السيء، مع إبلاغهم بسفره إلى المغرب لأداء واجبه نحو أبيه وعائلته، لحسن الحظ وجد تفهما من الإدارة وسمُح له بالسفر. بعد ذلك لف متاعه لينطلق في طريقه إلى المطار لعله يجد مقعدا له بإحدى الطائرات المتوجهة للبلد. بعد المرور من كل الإجراءات القانونية والتفتيش. أخذ مقعده في الطائرة، استغرقت الرحلة ساعتين ونصف للوصول إلى مطار وجدة انكاد. مرت الساعتان ببطء كطريق لا نهاية له. في البداية وجد الوقت طويلا، لكن بعد ساعة من الطيران أصبحت الطائرة تهتز وكأنها في متناول عاصفة قوية. كل المسافرين رفعوا أياديهم إلى الله تعالى بالدعاء وقراءة القرآن، وكأن الموت بدا يفتح ذراعيه لاستقبالهم.
هذه الأثناء تقدم ربان الطائرة لبث الاطمئنان في النفوس، إلا أن الطائرة لم تجد استقرارا لها إلى أن دخلت الأجواء الجوية المغربية. حينها تحدث الربان مرة ثانية لإخبار المسافرين بأن الجو مغاير في المغرب حيث تصل الحرارة إلى حوالي ثلاثين درجة مع رياح منخفضة بالجهة الشرقية.
بعد ساعة تقريبا، حطت الطائرة بمطار وجدة، قام المسافرون كعادتهم ليقفوا جميعهم في آن واحد، لكن هذه المرة بالتصفيق والزغاريد موجهين شكرهم لطاقم الطائرة على حسن تدبيرهم لهذا السفر الذي مر في ظروف صعبة وشاقة.
نزل محمد من الطائرة ليجد نفسه مرة أخرى يفكر في وفاة أبيه بعدما قضى زهاء ساعتين وهو يطلب من الله النجاة من هذا السفر الصعب، وفكره متوجه إلى زوجته وأبنائه الذين تركهم بالديار الفرنسية. بعض المسافرين ركعوا ركعتين حمدا لله على سلامتهم.
بعد ذلك قام محمد بالإجراءات الإدارية الجمركية، حينما خرج من المطار انتبه إلى الساعة ليجدها قد اقتربت من وقت صلاة العصر مما يعني أنه لن يحضر جنازة ٲبيه. لما وصل إلى منزل أبويه كان كل شيء قد انتهى. رجع الرجال من المقبرة، انقضت صلاة الجنازة، رجعوا تاركين والده هناك حيث البقاء، لم يستطع الوصول في الوقت المناسب لدفن أبيه، لكنه وجد أمامه حشدا كبيرا من الناس جاؤوا للقيام بواجب العزاء.