مع ما يبدو في الظاهر في قضية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية فإننا يجب أن ننظر إلى الصورة الكلية. قد تبدو لك الظلمة، لكن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وقد تبدو لك الجثة ميتة، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
مسيرة التطبيع اليوم مسيرة إيجابية ومباركة، ظاهرها العذاب وباطنها من قبله الرحمة.
وضع الدول العربية اليوم وضع سيء جدا، ومنذ عقود. هناك 22 دولة، إذا صنعت واحدة منها ثقبا في الكيس فإن الدول الأخرى ستصبح في وضعية معقدة، ومن يريد أن يكون بطلا لوحده سيكون مصيره التصفية. قد تلتحق بعض الدول بقائمة المطبعين، مثل المغرب مثلا، لكن هذا لا يعني أن الدولة المغربية تريد التطبيع، بل يعني أن الوضع صار أكثر تعقيدا وأن من الحكمة اختيار أهون الشرين.
يجب أن نكون واقعيين لا مثاليين. الوضع صعب ومعقد جدا، ونحن في زقاق ضيق لا يقود إلى مخرج، إما الانفجار وإما الانفجار. إسرائيل اليوم دولة نافذة في العالم كله، واليهود في أبهى حلة اليوم بعد قرون من القتل والتشريد، بيدهم القوة والمال والسلاح والسياسة الدولية والمنظمات العالمية. هذه أخطر أقلية في التاريخ كله وفي العالم، برا وبحرا، وهي اليوم تملك الدول العظمى وتتحكم فيها، وأنت خاضع للدول العظمى التي تتحكم فيك، وليس أمامك إلا طريق من اثنين: إما أن تغامر وحدك فيكون مصيرك الخراب، وتكون كمن يشرب السم، وإما أن تختار الانحناء للعاصفة إلى أن يفعل الله عز وجل أمرا كان مقدرا.
لقد قلنا وكتبنا مرات عدة أن التاريخ الإسلامي سلسلة متواصلة لم تنقطع أبدا. اليوم يمكننا أن نتحدث عن الحروب الصليبية وكأنها حصلت أمس. كانت الحروب الصليبية من أجل القدس، واليوم من أجل القدس. احتل الافرنج القدس زمنا طويلا إلى أن طردهم صلاح الدين. لكن الافرنج خرجوا فلم ينسوا العودة. بعد قرون عادوا، فوضع اللنبي قدمه فوق قبر صلاح الدين وقال: ها قد عدنا. كانت القدس هي النواة. اليوم أقرأ أن الرئيس الأمريكي يقول بأنه سيسمح للمسلمين بزيارة القدس بعد التطبيع مع إسرائيل. ترامب هو الذي سيسمح للمسلمين بزيارة القدس. إذن القدس لا تزال هي هي منذ الحروب الصليبية، لم يتغير شيء، وعسى أن يفهم الناس إن شاء الله.
أي دولة عربية لديها بقية نخوة ورجولة هي دولة خائفة مرتين، مرة من العرب أنفسهم، ومرة من غير العرب. من العرب لأن العرب هم الذين تآمروا على الكثير من الأنظمة العربية، وما يقع اليوم في بلدان عربية بتمويل عربي ودعم سياسي وديبلوماسي عربي دليل واضح، دون أن نسمي الأشياء. أي نظام عربي يمكنه أن يغامر اليوم ويصرخ في وجه المطبعين ويرفض التطبيع؟ كان هناك شخص اسمه القذافي، ظل يصرخ ويلعن ويقلد عنترة بن شداد، لكنه كان سيء الحظ مع الجميع، الشعوب العربية وصفته بالمجنون، والأنظمة العربية اعتبرته خطرا عليها. النتيجة أنهما تآمروا عليه مع فرنسا والناتو، فكان مصيره ومن معه أنهم ماتوا.
أما الخوف من غير العرب فحدث ولا حرج. أي حركة منك غير مدروسة سوف تدفعهم إلى خلق مشاكل لك. اليوم هناك إمكانيات كبيرة جدا لخلق المشاكل لك. آخر شيء يصنعوا لك فيديو ويدفعون لشخص بضع دولارات وزجاجة ويسكي فيخرج ليعارض سياستك ويتصرف في معلومات يعطونها له لهم، وها أنت أمام تظاهرات في الشارع وكاميرا السي إن إن والجزيرة، ويكفي بيان صغير يوقعه أمين عام الأمم المتحدة الذي يتعشى مع زعماء الاقتصاد من اليهود، لتنتهي مهمتك.
لذلك فإن ما نراه يحصل اليوم في العالم العربي ليس له سوى نتيجة واحدة يسير إليها بدقة ومنهجية علمية، هي الفتنة. نعم. ستكون هناك فتنة لا يريدها أحد لكنها ستحصل، لم يعد هناك مفر إطلاقا. المعضلة الخطيرة التي ستحصل بعد موجات التطبيع هي التالي: مزيد من الضغط على العلماء والمثقفين واعتقالهم بسبب معارضتهم للتطبيع وحديثهم عن اليهود، باسم الكراهية. عوض أن تستعمل إسرائيل السلاح لضرب العرب ستدفع الأنظمة العربية إلى استعمال مفهوم الكراهية كسلاح نووي لقتل الشعوب وخنقها. لقد روض اليهود الأوروبيين بمفهوم اللاسامية، ولكن ترويض الأوروبيين كان ميسورا بسبب القرابة الدموية بين اليهودية والمسيحية، أما ترويض المسلمين فسيكون مصيره الفشل، وستحصل الفتنة.
سيفتح التطبيع المجال أمام اليهود لزيارة البلدان العربية. ولكن بسبب المخاوف ستتم هذه الزيارات تحت الحراسة الأمنية المشددة في الدول العربية، وفي ظل قوانين قاسية ضد “الكراهية” و”ازدراء الأديان” و”التطرف”. سيشعر المواطن العربي أن اليهودي المغتصب محمي من طرف دولته، وستبدأ الاعتداءات على اليهود تدريجيا في الدول العربية بسبب الإحساس بالإهانة والغبن. وبسبب اليهود ستحصل مواجهة بين الأنظمة وشعوبها.
هذا هو الجديد اليوم في مسار التطبيع. خلافا لمصر عام 1978 والأردن عام 1994 فإن التطبيع اليوم مصحوب بتوصيات بالضرب على يد كل من يتحدث عن اليهود بسوء أو يدعو إلى المقاومة. ما هي كلمة السر؟ التطرف.
هذا الأمر كانت له مقدمات بدأت قبل عشرين عام. ما هي هذه المقدمات؟ الإصلاح الديني. ما هي عناصر الإصلاح الديني الجوهرية؟ التعايش، القضاء على الكراهية، المصالحة مع اليهود، محاربة التفسيرات القرآنية لآيات الصراع مع اليهود. النبي لم يكن صاحب دعوة لخلاص البشرية، بل كان مجرد مواطن في يثرب يجاور يهوديا، مثل الجوار الذي بين محمود عباس وبنيامين نتنياهو، فالتطبيع لا يمكن أن يحصل بدون مقدمات دينية وفكرية.
أنظر حواليك، ستجد أن الإصلاح الديني الذي كنا نتكلم فيه منذ عشرين عاما يهم شعبا واحدا فقط، هو الشعب اليهودي. هل سمعت يوما عن إصلاح ديني يهم المسلمين بحيث يدعو إلى توزيع الثروة بشكل عادل لأن “المال ملك لله” ويعطي الحق للناس في اختيار الحاكم لأن الإكراه ممنوع في الإسلام؟ وذلك لأن ما يهم في الإصلاح الديني ليس القضاء على الإكراه، بل على “الكراهية”.
ما يجب أن تعلمه أيضا أن الإصلاح الديني لأول مرة في تاريخ المسلمين يصبح قضية أمنية، تهم الدولة والمخابرات في العالم العربي. إذا فهمت هذا، فهمت كل شيء، وإذا لم تفهم ستعيش غبيا بقية عمرك إن شاء الله.
لكن المسلم لا ييأس أبدا، فاللهم ارحم هذه الأمة ودمر من يكيد لها.