حجر صحّي..
عالم السّياسة جعل من الإعلام خادمًا مطيعًا؛ فأبعده عن المصداقيّة ووسّع الفجوة بينه وبين متابعيه، ربّما هذا الأمر كان سببًا كافيًا لي لأفقد إيماني بالإعلام؛ فبالرّغم من أنّ الأخبار المرئيّة والمقروءة ووسائل التّواصل الاجتماعي أعلنت عن انتشار فيروس كورونا، إلّا أننّي لم أصدّق الخبر ،واعتقدت بأنّه فيروس عابر كغيره من الفيروسات، الّتي اجتاحت عالمنا قبل أعوام وهوّل الإعلام من خطورتها.
كنت أتوجّه في تلك الأثناء إلى المحلّات التّجاريّة وأرى الطّوابير الطّويلة فأستغرب لهذا الهجوم البشريّ على البضائع الّتي اختفى الكثير منها ليترك رفوفها فارغة، كلّ الأمور كانت تشير إلى جائحة قادمة وكأنّنا على مشارف حرب، حيث ازدحام المحلّات بالنّاس بأعداد مهولة، لم يشدّني الأمر أو يرعبني، كنت أغادر هذه المحلّات بسبب ازدحام الزبائن فيها دون شراء حاجياتي.
لم تكن حالات الإصابة في شيكاغو -الّتي أعيش فيها- تتجاوز عدد الأصابع، فآمنت بحدسي، لكن ما لبثت أن تيّقنت بأنّ العالم يقف أمام وباء عالمّي بعد أن قفزت الإصابات في شيكاغو إلى المئات ثم الآلاف خلال أيّامٍ معدودة؛ فانتشر الفيروس في كلّ ركن من العالم، وحصد معه الأرواح غير آبه بقوّة جسد أو عجز شيخوخة أو طرواة طفل.
كان لا بدّ من فرض الحجر الصّحي على البشريّة جمعاء؛ لضمان التّباعد الاجتماعي الّذي قد يحدّ من انتشار الوباء، وهذا ما فعلته شيكاغو، حيث فرضت الحجر على سكّانها كغيرها من المدن، بعد أن زارها الضّيف الثّقيل وفتك بأرواح بعض أبنائها.
لم يكن الأمر مرحبًّا به عند البعض خاصّة عند أولئك الّذين فقدوا وظائفهم وتضرّرت معيشتهم ومصادر رزقهم، على العكس من البعض الآخر الّذي وجد في الحجر فرصة له بالرّاحة وقضاء إجازة كان يحتاجها.
في شيكاغو تعطّلت الكثير من المصالح الاقتصاديّة، والتزم النّاس بيوتهم إلّا في الحالات الضّروريّة.
بالنّسبة لي شخصيًّا لم يتغيّر الوضع كثيرًا، وإن تغيّر فقد كان باتجاه إيجابيّ؛ فمن يصادق القلم يستطيع العيش بسلام بعيدًا عن صخب الحياة، ويجد في الجدران صحيفة تفتح ذراعيها له بكلّ حبّ؛ ليخطّ عليها كلّ ما جادت به نفسه؛ فلا أمتع من رفقة الكلمات الّتي تغدق علينا بكرمها لنفجّر مشاعرنا وأحاسيسنا من خلالها،
الكتاب أيضًا لم أتخلّ عنه يومًا، وهو كذلك؛ فهو الصّديق الوفيّ الّذي عشت من خلاله مع عوالم وحيوات بعيدًا عن فوضى هذا العالم الّذي وجد القبح فيه بيئة ملائمة ليتوسّع وينتشر من خلالها..
أيّامي مع الحجر كانت على النّقيض من الكثيرين الّذين ازدادوا ضجرًا بين الجدران المقفلة الباردة؛ فقد أعاد لي الدّفء بين أحضان أبنائي الّتي أبعدتهم عنّي جامعاتهم؛ فكانت فرصة نادرة ليعود للجدران بريقها ونورها وبهجتها الّذي افتقدناه لأعوام.
بين جدران الحجر تفجّر لديّ شغف لم أعرفه يومًا، فقد دخلت المطبخ لتعلّم صنع بعض الأطعمة الّتي كنّا نعتمد في جلبها على المحلّات التّجاريّة؛ اللبن الرّائب، الخبز العربّي، الجبنة البيضاء المطعّمة بحبّات البركة، القطائف، الحلويات اللّذيذة، كلّها وجبات صحيّة خالية من المواد الحافظة المؤذية للجسم؛ وفّرها لنا هذا الإلزام الجبريّ، وباتت وجبات أصبحت تفضّلها العائلة على مثيلها الجاهز في المحلّات.
الغربة أبعدتني عن بلادي لكنّها لم تبعدني عن أحبّتي يومًا رغم آلاف الأميال الّتي تفصلني عنهم، فلا مسافات ولا غربة ولا كورونا يمكنها أن تفصل بيني وبين من زرعوا في قلبي ألف وردة وبستان، استمرّ تواصلي خلال الحجر بأحبّتي كما دومًا من خلال وسائل الاتّصال الاجتماعيّة؛ النّعمة الّتي حفظت دفء قلبي.
اليد الخضراء صفة لم تلازمني يومًا؛ فكلّ نبات أحاول رعايته لا ينجح، تذبل أوراقه وتموت ثمراته؛ لكن بتوفّر الوقت الّذي منحه لي الحجر، أصبحت أتعلّم الكثير عن عالم الزّراعة، وكيفيّة العناية بها، فأزهرت الورود أخيرًا في حديقتي وتحوّلت يدي إلى يدٍ خضراء، لتثبت للجميع أنّ اليد الخضراء تعني الخبرة والتعلّم والصّبر والوقت الكافي، فليس هناك يد سحريّة تبهج الأزهار بمجرّد لمسها كما يعتقد البعض.
حجر إجباريّ رافق العالم بأسره، فأوجد لكلّ فرد طقوسه الخاصّة به.
انتهى الحجر في شيكاغو وعادت الحياة إلى طبيعتها ظاهريًّا، لكن هل عادت أرواحنا كما كانت؟! ماذا يا ترى سيكون الواقع بعد الحجر؟ ماذا ينتظرنا؟ هل ستتغيّر نظرتنا للكون؟! هل سنتعّظ بعد أن تساقط جبروت أضخم إنسان تحت فتك فيروس متناهي في الصّغر؛ لا تراه أعيننا المجرّدة؟! هل سنثق بالسّياسة الّتي أثبتت تلاعبها بالإعلام حتّى في حضرة الموت؟ الأيّام القادمة كفيلة بالإجابة على هذه التّساؤلات.