البليغ يتوخّى الأناقة
انطلاقا من القاعدة التي وضعها أرباب اللغة والبيان ومن اعتلوا مطية المعاني، والتي أجمع عليها اللغويون قديما وحديثا أن ” اللغة تنقل ولا تقاس ” ، أقول : إن اللغة العربية لا تزدان في هيئتها، ولا في أساليبها، ولا في تراكيب كلامها، وكذا من حيث منظرها، ونبراتها الصوتية، إلا بوضع كلماتها في مواضعها اللائقة بها، وذاك هو الحد الفاصل الذي بنى عليه البلغاء كلامهم وقبحوا واستحسنوا لأجله ، فمن ثمة لو استفسرت أحدهم عن وجه استخدام لأي فعل أو حتى بنيته اللفظية وقراءة كلمة بضم أولها وسكون ثانيها ورفع آخرها لأجابك : ” هكذا قاله العرب ” على نحو ما ساقه الشاعر :
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
أو على منوال ما نسج عليه الشاعر كلامه :
ولست بنحوي يلوك لسانه
ولكن سليقي أقول فأعرب
القصد من ذكر هذه القاعدة، وإيرادها في هذه العجالة المتاحة، أن الذين يتحروّن كلام العرب وينتقون منه ما ينمقون به مقالهم أو حديثهم، يقفون وقفة إجلال وتعظيم عند الكلام البليغ، أو لدى العبارة الموجزة في أسلوبها الفاقد المثيل في صياغتها المتنوعة في إفادتها، إذ لا تستهجنها الطبائع، ولا تتمعّر منها الوجوه، ولا تعافها الأذواق، ولا تمجّها الأسماع، فلا يخرّون عليها صما وعميانا، بل يحرصون على انتقائها انتقاء الطير للعيدان، ليتّخذ منها عُشّه اتخاذا حسنا، أو كما يمتصّ النحل رحيق الأزهار، أو كتخيّر المشتري لسلع بيته وأثاث منزله، أو تفحّص العمار عن لبنات المباني، وتركيبها في القصر تركيبا رائعا …