لا يغني كتاب عن كتاب __ ذ. محمد داود السواتي

0
388

لا يغني كتاب عن كتاب

   كثيرة هي المقولات النادرة والأمثال السائرة، التي شاعت على ألسنة أهل العلم ممن نذروا حياتهم لتحقيق التراث الإسلامي العظيم، ومنها هذه المقولة التي كادت أن تصير مضربَ مثلٍ، والتي ذكرها الأستاذ أبو فهر والطناحي في أكثر من موضع من كتاباتهم.. ولا داعي إلى الاستغراب أو العجب! فالاختلاف في الطبائع والتنوع في الأذواق والأنفس فكريا وثقافيا لَهو طبيعيّ وخلقيّ لا انفكاك لنا عنه مهما حاولنا الانخلاع عنه…
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه عليه» نعم، لو لم يكن الأمر كذلك لما وقع الاختلاف بين المناطقة وعند أرباب أي فن، فهذا يمشي على شاكلته وذاك وفق طبيعته.
“وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى”
*ومن مذهبي حب الديار لأهلها*
*وللناس فيما يعشقون مذاهب*
“أبو فراس الحمداني”
وهذا هو الفارق الكبير الذي تمتاز به الكتب عن غيرها من المؤلفات، فكتاب له ميزة وجزئية خاصة يتضمن تحليلها من بدايته إلى آخره وحتى في منتصفه، وكتاب يتعرض لمسألة من مستهله إلى وسطه ثم ينعطف انعطافا يسيرا لتنظيرها وتطبيقها، وفي نهاية الأمر يعود إلى ما كان بالأصل عناه.. وأفضل مثال على ذلك المؤلفات المكتوبة في باب التفسير، فترى مفسرا يستخدم أسلوبا معينا أو يتحدث عن موضوع محدد وآخر يخالفه في ذلك، على سبيل المثال: تجد التخصص والاستقصاء في الأحكام عند القرطبي، والتفاني والإحصاء في المعاني والبديع عند الزمخشري وأبي السعود، والأعاريب النحوية والتحيلات اللغوية عن أبي حيان والطاهر بن عاشور، والاستزادة من الروايات ونقل الآثار عند ابن كثير والطبري، ومحاكاة الزمن عند سيد قطب، والفكر عند غيره.. وحتى الأمر نفسه ينطبق على الكثير من الكتب الحديثية والتاريخية، ودواوين السنة: صحاحها ومسانيدها، وفي كتب التراجم والسير فترى الطبقات الكبرى لابن سعد وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي وابن كثير، وطبقات الشافعية لابن الصلاح ولابن قاضي شهبة وللشرقاوي وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى تنحو منحىً ما لا يسلكه ابن حجر في الإصابة، وفي تهذيب التهذيب، وابن عبد البر في الاستيعاب، وعز الدين ابن الأثير في أسد الغابة، والزركلي في الأعلام، وفي كل كتاب من الفوائد ما ليس في الآخر، “وهذا هو دأب العلوم كلها ففي كلّ واحد من العلوم تجد كتبا كثيرة، وأطروحات متعددة، وميولات فكرية، و أوجهاً خاصّة، وكل منها في علم واحد وربما موضوع واحد، ولكن لكل منها ما يميّزه عن الآخر ولو في جزئية بسيطة”.

ولقد كان شعراء الجاهلية ممن عُرِفوا بأساليبهم الشعرية، وتميزوا بها، ولكل واحد منهم نظر خاص في زاوية معينة وللآخر في جهة محددة لا يحيد عنها في جميع قصائده، ومن هذا القبيل: أن أشعرهم زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وجرير إذا غضب… وكثير هم من غيّروا طبائع الناس أو كان لهم أثر كبير في نفوس جمهرة محبّيهم: فابن المعتز على سبيل المثال فتن الناس بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، وشجّعهم أبو تمام بوحشياته، وأبكاهم بمرثياته، وزوّدهم الأصمعي بأصمعياته، ورققهم أبو العتاهية بزهدياته.. وهكذا دَوَالَيك.
وقد تمارس أيها القارئ الحبيب هوايةً ينفر منها غيرك، وقد يعجبك منظر أو طبيعة لا تعجب غيرك..
وفي نهاية المطاف أقول: إن القصد من ذكر هذ الأنموذج الوجيز لتعدد المحاسن في الكتب، أن الأمر ما دام كذلك فالإعراض عن كتابٍ، ثم الإقبال على آخر أو التمسّك بمؤلفات كاتب معين والاستنكاف عن غيره من المؤلفين، أمر يورد الطلاب المهالك، ويهوي بهم في أودية الخسران والحرمان، إذ يجب عليهم التحري والتقصي في أي كتاب، وإن كان منها ما هو ضار، ومنها ما هو نافع، -على نحو ما قاله الأستاذ بشير الإبراهيمي- ولكن الاطلاع على موارد النقص أفضل من الوقوع فيه…

“اللهم زدنا ولا تنقصنا، وعلمنا ما ينفعنا في دنيانا وعقبانا”

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here