ثنائية الحب و الحسد ٠٠ !!
مع الشاعرة الأندلسية شاعرة غرناطة الأولى حفصة بنت الحاج الركونية، والوزير الشاعر العاشق أبي جعفر بن سعيد العنسي :
” أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عـيوني
إلى يوم القيامة ما كفانــي ” ٠
وكتبت له ذات مرة تقول:
أزورك أم تزور فإن قلبي
إلى ما ملتم أبدا يميـــل
فثغري مورد عذب زلال
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى
إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل
أناتك عن بثينة يا جميل ٠
—–
نعم إن الحديث عن الشعر الغزلي الأندلسي ذو شجون، ولم لا فما أكثر قصص الوزراء العشاق هنا..
و بادئ ذي بدء نتوقف مع عصور الشعر العربي الممتدة منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث المعاصر، رحلة عطاء، وعندما نتوقف مع المرأة العربية الشاعرة و غرض (الغزل) نجد قديما كان الرثاء هو سيد الموقف، ولكن مع العصر الأموي برز الغزل وتصدرت المرأة الشاعرة مطلعه في قصص كثيرة مع عشاق العرب و الشعراء المتيمين، وننتقل مع ازدهار الشعر في العصر العباسي بكل مقوماته الفنية ولا سيما الغزلية.
لنخلص في دراستنا إلى حالة الغزل في بلاد الأندلس -إسبانيا- والتي انتقل إليها كل هذا من المشرق العربي، وتمخضت التجربة حيث وجدت بيئة خصبة أثرت في الشعر وامتزج غرض الغزل، فنلمح الوزير العاشق ابن زيدون وأميرته المدللة ولادة بنت المستكفي، أشهر قصص عشق في الغرب مثل قيس و ليلى في الشرق، وغيرهما كثير في رحلة الأدب العربي.
وقد قدمنا حلقات عديدة من قبل عن العشاق المتيمين من الوزراء العاشقين ومصيرهم غير السعيد.
واليوم نعيش مع قصة الشاعرة الأندلسية حفصة بنت الحاج الركونية ( 1135-1191).
ولدت الشاعرة الأندلسية حفصة بنت الحاج الركونية عام ١١٣٥م في غرناطة إسبانيا، و توفيت عام ٥٨٦ هجرية / ١١٩١ م بمراكش المغربية.
* حفصة والوزير أبي جعفر بن سعيد :
============
فإذا كانت الأميرة ولادة بنت المستكفي، ووزيرها الشاعر العاشق ابن زيدون في قرطبة، ومأساة الحب والحسد والسجن من قبل ابن جهور الذي نكل بابن زيدون…
نجد في غرناطة قصة متوازية أيضا، حيث حفصة الركونية والوزير أبو جعفر بن سعيد في غرناطة.
مشاهد الحب والشعر والحسد والسجن والقتل…
مع المساجلات الشعرية !!٠
==========
وحفصة الركونية من الشاعرات اللواتي جاهرن بالغزل بمن أحببن، والتي كانت على علاقة عشق مع الشاعر أبي جعفر ابن سعيد…
وهذا مسجل في المصادر الأدبية كثيراً من شعرها الغزلي الرقيق، ومن ذلك قولها:
أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عـيوني
إلى يوم القيامة ما كفانــي
وكتبت له ذات مرة تقول:
أزورك أم تزور فإن قلبي
إلى ما ملتم أبدا يميـــل
فثغري مورد عذب زلال
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى
إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل
أناتك عن بثينة يا جميل.
* مع ثنائية الحب والحسد:
=============
فقد تأملت هذه العلاقة عند الكثير حيث الحسد على نعمة الحب، وقد رصدتها شعرا من خلال المواقف واللقاءات حتى وقع الحسد، الذي نهايته السجن والقتل عن طريق الوشاية والمؤامرة والدسائس..
ونقطف معا هذا المشهد الذي يترجم لنا مدى الحالة النفسية :
ولما طمع أمير غرناطة الموحدي أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن في حبها، وقتل حبيبها أبا جعفر سنة (559 هـ/1198م) حزنت عليه حفصة حزناً عظيماً ولازمت لبس الحداد وجاهرت برثائه والبكاء عليه، فنهاها المؤمن عن ذلك فما امتنعت، فلم يجد بـداً من تهديدها فأبت وأصرت.
* عودة مع حفصة والوزير :
=============
كان أرق شعر حفصة وأكثره جرأة هو ما قالته غزلاً في أبي جعفر ابن سعيد العنسي الوزير الشاعر، أو ما أنشأته في مقام المساجلة معه، ولم تخرج معانيها في ذلك كله عن إطار الغزل الذي يتأرجح بين الاعتدال تارة، والشطط تارات أخرى.
يتولى أبو جعفر الوزارة، فتكتب إليه مهنئة بأبيات من الشعر العذب قائلة:
رأستَ فَما زالَ العداة بظُلمهم === وَعلمهم النامي يقولونَ لم رَأَس
وَهل منكرٌ أَن سادَ أهل زمانهِ === جموح إِلى العليا حرون عن الدَنَس
وتبدأ حفصة غزلها في الوزير أبي جعفر في ثوب من الاحتشام، وقد بدت عواطفها وكأنها شيء غير مخصوص بأحد بعينه، فتقول هذا اللون الخفيف في الشعر:
سلام يفتحُ في زهرهِ ال === كمام وينطق ورق الغصون
عَلى نازحٍ قَد ثَوى في الحشا === وَإن كانَ تحرم منه الجفون
لا تَحسبوا البعدَ ينسيكم === فذلك واللَه ما لا يَكون
وتكثر اللقاءات بين حفصة وأبي جعفر، ويلتقيان مرة في بستان “حور مؤمل” حيث الروض والماء والأنسام والأطيار تصنع جنة لنفسها وللعاشقين، ويحين وقت انصراف كل منهما إلى حيث يقيم، فيوحي اللقاء إلى الوزير الشاعر بهذه الأبيات:
رعى اللَه ليلا لم يُرع بمذمّم === عشية وارانا بحور مؤمل
وقد خفقت من نحو نجد أريجةُ === إذا نفحتُ جاءت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى === قضيب من الريحان من فوق جدول
يُرى الروضُ مسروراً بما قد === بدا له عناقٌ وضم وارتشافُ مقبل
ويرسل أبو جعفر بهذه الأبيات الرقيقة المتفائلة المرحة إلى حفصة، فتجيبها على عادتهما في التراسل شعراً، ولكن نظرتها إلى الرياض الكاسية، والمياه الجارية، والأطيار الصادحة، والنجوم المنورة، تختلف تماماً عن نظرة الوزير العاشق المرح، ومن ثم فإنها ترد عليه بأبيات تحمل هذه المعاني المتشائمة، النابع تشاؤمها من الغيرة وخوف الحسد :
لعمركَ ما سرّ الرياض بوصلنا === ولكنّه أَبدى لنا الغلّ والحسَد
وَلا صفّق النهرُ اِرتياحاً لقربنا === وَلا غرّد القمريّ إلّا لما وجد
فَلا تحسن الظنّ الّذي أنت أهله === فَما هو في كلّ المواطنِ بالرشَد
ما خلت هذا الأفق أبدى نجومهُ === لأمرٍ سوى كيما تكون لَنا رصَد
* والخلاصة :
=========
وفي حفصة جرأة على الغزل، ونهم إلى الحب يدفع بها إلى الغيرة، ثم ينتقل بها من مرحلة الغيرة إلى مرحلة الأثرة والأنانية، إنها تغار من كل شيء على صاحبها، من المرئي وغير المرئي، ومن المادة والمعنى، من الزمان والمكان، إنها طبيعة المرأة العاشقة تتمثل في حفصة أكثر مما تتمثل في طبيعة المرأة الشاعرة.
ومن الملاحظ أن مظهر العشق والشعر قد اجتمعا وتصارعا وتساجلا في نفس حفصة، فانتصر مظهر العاشقين وتصرفهم على رفاهة الشعراء وتفننهم.
* حول شخصيتها :
============
وشاعرتنا في غرناطة مثل ولادة في قرطبة؛ يذكر المقري أنها كانت جميلة ذات حسب ومال، ويذكر ابن دحية أنها كانت من أشراف بلدتها غرناطة، وتوفيت في مراكش سنة 586هـ.
وحفصة في غرناطة على زمانها مثل ولادة في قرطبة على زمانها أيضاً، بل إن حفصة أشعر، وهي في غزلها أكثر جرأة في الهجوم على معاني العشق والإثارة والغيرة، وقد ارتبطت حفصة بالوزير الشاعر الكاتب أبي جعفر أحمد بن سعيد وزير بني عبد المؤمن، ولسوء الحظ صادف ابن سعيد منافساً في حبه حفصة، وهو الملك نفسه أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن بن علي الذي كان يلقب بأمير المؤمنين، حيث كان أهلا لهذه المنافسة من حيث السلطة والقوة، فما زال الملك العاشق بابن سعيد حتى تلمس له أسباباً مفتعلة وقتله.
لقد ترعرعت حفصة في أكناف غرناطة الجميلة، وظلت له حفصة وافية له بعد مماته، فلبست الحداد الأسود بعد مقتله وهي في ريعان شبابها في الخمسين ربيعا برغم ما تعرضت له من مضايقات من الأمير المنافس لحبيبها الأول الراحل دون إصغاء لتهديده المتكرر.
هذه كانت صفحة مشرقة من الأدب الأندلسي، سطرتها شاعرة غرناطة حفصة بنت الحاج الركونية، غزلا و عشقا بفيض من شعرها الرومانسي مع الوزير العاشق أبي جعفر بن سعيد في حالة حب، حيث تنتهي بمأساة السجن والقتل، نفس مصير ونهاية ابن زيدون الشاعر الوزير العاشق مع الأميرة ولادة، والنهاية غير السعيدة لهذا الحب بسبب الغيرة والحسد، و ما أكثر هذا في شعرنا العربي قديما وحديثا دائما.