قراءة نقدية في ديوان “شمس الهجير” للشاعر المغربي أحمد بياض :
ازدانت الساحة الأدبية العربية بولادة ديوان شعري جديد، صدر عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع بمصر، للشاعر المغربي المتميز أحمد بياض، وهو شاعر من العيار الثقيل، أبهر الكثير من النقاد بأسلوبه الفني المتميز، وشطحاته اللغوية على إيقاع القصيدة الحديثة. له العديد العديد من النصوص الشعرية التي تفتن القارئ بعمق التعبير والدلالة، وهو من الناشطين أيضا على صفحات التواصل الاجتمــــــاعي فيسبوك، حيث استطاع أن يخلق لشخصيته الشعرية مناخا خصبا في الأوساط الافتراضية أيضا.
الشاعر من مواليد 1956 بمكناس، المغرب، خريج المدرسة العليا للأساتذة، وأستاذ وباحث في مجال التربية والتكوين، “أتحف السّاحة الأدبية بالكثير من المؤلفات الأدبية والدراســــات الفكرية، فبعد ديوانه “مناجم في حوض الشتاء” الذي يعد باكورة أعماله الشعرية، ثم “كف على غسيل نجمة سرد تعبيري” يأتي ديوانه الثالث “شمس الهجير” ليمثل تجربة شعرية نـــــاضجة، ومتميزة ومتفردة أيضا، ويضم الديوان حوالي سبعة عشر قصيدة، تحمل العناوين الآتية على التوالي: (سواق، بيوت دون جدران، أغصان شـــــائكة، أوراق الصمت، جفن الرمـــــاد، ثوب الطريق، جسد الرمل، مدن الرخـــــــــام، حين ترتشف الأغلال حوض اليـــــاسمين، بقايا عطر، حبر ليل، شمس الهجير، أوبرا، سيل متبرج، أنثى السّبيل، تجاعيد الخنساء، صبابة) وقد قدمه له النّاقد العراقي عدي العبادي.
ويعتبر الديوان “شمس الهجير” من حيث القيمة الفنية تجربة شعرية ناضجة ومتفردة كما أسلفت، وهذه شهادة لا تزيد الشاعر شيئا في مكانته الأدبية بين شعراء العصر، حيث جاءت نصوصه المتفاوتة من حيث الحجم، مثقلة بحمولات نفسية ومعرفية مختلفة، تنفتح على الذات والآخر، وعلى الداخل والخارج، اشتغل فيها الكاتب على لغة انزياحية، جمعت بين شعرية اللغة وجمالية الرمز، مما جعل قصائده تتميز بالنضج الفني، والعمق اللغوي والثيماتي، وصدق الشعور والعاطفة.
ويأخذنا الشاعر في هذا الديوان في جنبات الخيــــــــال، مبحرا في كل عوالم الوجـــــود، مخلخلا كل مألوف، باحثا عن الجديد المثير الكــــامن في هـــــــــامش الرؤى، ورصيف الحياة، فهو لم يقف عند حد من الحدود، بل راح ينحت في جسد اللغة ما لم ينحته قبله شاعر من الشعراء، ولم يسبقه إليه كاتب، فأسلوبه متميز عن كل الأساليب الشعرية الأخرى، حيث يتميز بالحنكة وحلاوة السبك، بدايات الدلالة عنده جلية للقارئ الماهر، ونهاياتها لا نطـــــاق لها، فهي تتعدى سلطة الزمان والمكــــــــــان، وتتضمن تجارب حياتية مختلفة، تتقاطع في لحظة شعرية ما، عاشها الكاتب أثناء وقبل لحظة الكتابة، ما يجعل القارئ يشعر أنه جزء من هذه التجربة الشعرية، لأن الطاقة العاطفية المتولدة من تجاور الكلمات في النص تبعث حركية كامنة في ذات المتلقي، دون الوعي بحقيقة هذه الحركية أو بالوعي بها.
وقد جعل الشاعر من القميص والجسد ويوسف (عليه السلام) موتيفات نصية بارزة الحضور، يمرر من خلالها أفكاره ورؤاه تجاه العالم الذي يعيش فيه، وبالرغم من أن الشاعر يبدو متشائما في نظرته، فإنه يظهر بين الفينة والفينة بعض شعاع الأمل، ويبذر في القفار بذور التفاؤل، حتى يمد القارئ بشحنة من الطاقة الإيجابية، كما أنه يظهر لقارئه بهيئة الحالم الذي لا ينفك يحلم بالغد المشرق رغم كل الصعاب، رغم الجوع، ورغم الظمأ، ورغم التيهان وسنين العجف. الشاعر يحلم ولا يقطع حبل الأمل، يقول الشاعر في قصيدة “صبابة” :
“إن كان
لا بد أن تنامي
على خد الجوع
وتلتحفي شرفة الظمأ
فالبحر!
على قميص الجسد
يحضن الأنهر العطشى
ومداعبة الريح
خيالك!”
ويقول في القصيدة ذاتها :
“أنا
يا طفلتي:
نشيد
على وزرة موج
نعال صحراء
مكشوفة
أتسكع في مدن
الشرق
أبحث عن حلمي
حين تآكلت
عروق جفني”
كما يقول في قصيدة: “سيل متبرج”:
“والآتي
من صفير البوارج
سيأتي
مخبولًا
يحمل حلم الجسد
ووصية نسيها الرمل
على فانوس البحر
غربة
بجولة الفراق
إكسير حلم أبدي
هكذا الغائب
في ريح مسكونة
بالأرصاد”
ويلاحظ القارئ أيضا أثناء قراءته لنصوص الديوان، التزام الشاعر بقضايا الوطن والأمة، كما يعزف أحيانا على أوتار الذات، فيبدو تارة منفتحا، وتارة منغلقا، لكنه في الأحوال كلها يغوص إلى العمق العميق من المعانى.
وهو يواري سوأة الروح يمر بنا على خيالات الظل في المآسي، فبيوت الشاعر دون جدران وروحه دون قميص، والرحلة حافية والجسد باهت والصمت خافت، والقمر وحده يبكي على شرفات القول، ولكن الغوث يكون من الكتابة وفي الكتابة، أين يعيش الشاعر تجربة جديدة كل مرة، لذلك هو ينادي قارئه بأن يقرأه ليفهمه، فيقول في قصيدة “سواق” وهي القصيدة التي تتصدر الديوان:
“عشرون سنة
أمام
الأبواب المستقلة
عن روح الأرض.
عشرون سنة
ذبيحة هلال القول
فاقرئيني
فالمداد
غيث الصوت
المداد
شهوة القيد
المداد
عشب الأشواق
الحافية
وجرح البحر”
ما يلاحظ على الديوان أيضا، أن القصائد كلها تحمل الخصائص الفنية ذاتها، فهي تتوالد من جبة شعرية واحدة في أشكال متشابهة، وتتناص مع بعضها البعض شكلا ومضـــــمونا، ويمكن أن يسجل القارئ العبارات القصيرة التي تحمل التكتلات الشعورية، والصور المكثفة المتلاحقة ذات الأبعاد الدلالية المتوالدة، والإشعاعات الثقافية المنفتحة، ولعبة اللغة، ويبتعد الشاعر عن القوالب البلاغية الجاهزة، والأساليب الإنشائية المهلهلة، كما نجده لا يؤثر الإيقاع الصوتي الخارجي، بل يتمركز حول إيقاعية اللفظ والصورة، وجمالية اللغة وعمق المعاني، يقول الشاعر في قصيدة “شمس الهجير ” وهي القصيدة التي حمل الديوان عنوانها :
“وتقول لي
على هلال غصن
وبحر وريث دمعة
وأعراس مدام
نتقاسمها
على رمق شمعة
وعروق صوم
أيام لنا
في رحلة الموج
وخريف الأشجار
-كم خد لك
على شرفات دمعي
حين تصحو من
ينابيع غيث شوقي ؟”
فلننظر إلى هذه الصور التي تتلاحق كقطع الليل المظلم. وإلى جماليتها ، فكيف يكون البحر وريث دمعة؟ وكيف يكون للدمع شرفات وعلى ماذا تطل هذه الشرفات؟ وهل للشوق غيث وهل هو ماء أم عطر أم شيء لا يكون إلا في عالم الشاعر ؟
هذا إن دل على شيء إنما يدل على خصوبة المخيلة عند الشاعر، فالكون كله والوجود كمثل العجينة يشكل بها الشاعر أشكالا شعرية لا تنتهي .
ولننظر إلى قوله في قصيدة “أوبرا”
” أعين تائهة
تبحث في دمية المساء
عن خليلة
وقلب باهت لعشيقة
تابوت الزكام
المتملص
من الذاكرة
بريق غامض
في عرس النسيان
حريق جفن
تاه عن الحصاد
بريق نشوة
في أحضان الموت
ضجيج الخطى
لا شجرة هناك
تنعش ناقوس الظل
نجمة هوت
من سراب النوافذ
على سماء
كف ضائع
الأقدام
تبحث عن مراهقة
الطريق
صداها منعدم
يحمل اختمار الأيام”
هو تلاعب بالألفاظ وبالمعاني، وصقل لتجربة شعرية بكلمات سكرى لا وجهة لها ولا شارع إلا ضفاف الشعر وأشرعة المعاني، حيث يبحر القارئ بلا مرساة، وكل البحار تؤدي إلى الأنا، وإلى الهو، وإلى جدلية الحلم والواقع… بطريقة لا يمتلكها إلا الشاعر أحمد بياض.
وعموما فإن هذا الديوان الشعري المتميز يحمل بصدق بصمة الشاعر وهمــــــومه وانشغــــالاته، ونظرته العميقة إلى أحداث العصر بمختلف مرجعياتها وخلفياتها، ولذلك نجده يبدو متعبا، مجهدا ومتأثرا بكل ما يحصل حوله، فتعب الشاعر نتيجة تراكمات وتكتلات شعورية أفرزها الزمن بأحداثه المختلفة. وبرغم النظرة السوداوية التي يتبناها غالبا في ديوانه، فإن جمالية الكلم والإنشاء تضفي على الديوان روعة الشعر وسحر الأدبية. فهنيئا للمكتبة العربية بهذا المؤلف الأدبي الشعري الراقي، وتحديات ملؤها التقدير والإعجاب للشاعر أحمد بياض.