كثيرون عبر العالم، من أهل الفكر والسياسة، يتطارحون وجهات النظر حول مآلات العالم ما بعد هذا الوباء العالمي، لكن قليلون جدا من يطرحون احتمال تحلل الغرب، أو ما يسمى الحضارة الغربية.
أود هنا أن أطرح قضية هامة جدا، تتطلب التأمل. هل هناك فعلا حضارة غربية؟
أولا بد من تسجيل نقطة أساسية قبل طرح بعض النقاط: لا يمكن أن نطلق حضارة على معطى أو واقع يبلغ عمره أقل من 100 عاما، لا يمكن أن تكون هناك حضارة في مدة أقل من 200 عاما على الأقل، أي قرنين من الزمن.
فهل بلغت الحضارة الغربية المائة عام؟
لقد وقع الكثير من التبليس والتدليس في نشر هذه الأفكار المغلوطة حتى صارت عندنا بديهية، وهي أن هناك حضارة غربية، ومع العادة أصبحنا نعتقد أن هذه الحضارة لم توجد فقط، بل كانت منذ زمن قديم.
والواقع أن الغرب أولا كمفهوم قد ولد حديثا فقط، ففي القديم كان هناك العالم المسيحي، والعالم المسيحي كان كله حروبا ولم تكن به حضارة. لم يبدأ النموذج الغربي إلا في القرن التاسع عشر في التبلور، تدريجيا، لكنه لم يكتمل.
وكما قلنا سابقا، النموذج الغربي نتاج عناق حصل بين ثلاثة أشخاص: إغريقي وروماني وإسلامي، نشأت بينهما صداقة استفاد منها الغرب المسيحي، بعد أن تخلى عن المسيحية رسميا، كمؤسسة.
وقد أنشأ الغرب من هذا الخليط نموذجا، لكن فشل في إنشاء حضارة. لماذا؟
لأن الحضارة ليست هي الإنتاج المادي والتصنيع، بل القيم الإنسانية والدينية القابلة للنقل إلى الآخرين بكل حرية.
والغرب لم تكن له قيم، جميع القيم أخذها من الفلسفة الإغريقية، وهي ليست لا دينية ولا غربية، لا مسيحية ولا أوروبية، بل قومية إغريقية.
وحتى النصف الأول من القرن العشرين كان الغرب لا يزال يتاجر في العبيد عالميا، وكانت المرأة مستغلة، وكان السود مهمشين، وكانت الحروب على قدم وساق. أما القيم السياسية فهي رغم أنها تعود على مستوى التنصيص إلى الثورة الفرنسية، إلا أن إعمالها عمليا لم يبدأ إلا في وقت متأخر، كما نراها اليوم. المرأة لم تبدأ في التصويت والمشاركة في الانتخابات حتى الستينات، والسود كانوا عنصرا منبوذا إلى حدود السبعينات.
أما من الناحية الاقتصادية فقد عاش الغرب على نهب ثروات الآخرين. وبالرغم من هذا النهب، لم تكن هناك سوى مرحلة قصيرة لا تتجاوز ثلاثين أو أربعين سنة من الخمسينات إلى السبعينات هي التي كانت مرحلة الرفاه، وهي تسمى هناك les trente glorieuses، وهم يقولون إنها تبدأ من عام 1947 إلى 1975. ولو تأملنا قليلا لعرفنا ما يلي: 1947 يعني عامين بعد الخراب الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، وإعادة البناء ـ ثانيا جميع الدول الأوروبية المهمة كانت لديها مستعمرات في الخارج ـ ثالثا اليد العاملة كانت من العالم الثالث وإفريقيا، فالاقتصاد الأوروبي والغربي بني على النهب والاستعمارـ عام 1975 كان عام الصدمة النفطية، وقرار العرب والسعودية منع النفط عن الغرب: ما بعده نعرفه، وهو أن الغرب دخل مرحلة الاستعمار الثاني، حيث فرض على منظمة الأوبك أن تنصاع لشروطه وإملاءاته بالقوة الناعمة، ووضع بداخلها لوبيا تابعا له للتحكم في الإنتاج والأسعار: النتيجة أن الاقتصاد الغربي لا يزال حتى اليوم مبنيا على الاستعمار والنهب ومنطق القوة.
فأين هي الحضارة الغربية؟
الأغبياء الذين لا يرون من التاريخ الإسلامي إلا مفاهيم الغنيمة والخراج، وهي كانت مرحلية وخاضعة لقيود شرعية قانونية، عليهم أن يصنعوا هذه العملية الحسابية البسيطة: اجمعوا ما أخذ المسلمون في عشر سنوات، وما أخذ الغرب في نفس الفترة، من غنائم وخراج من الآخرين، وقدموا لنا النتائج.
لكن القضية معقدة، فالغرب لا يسمي هذه الأمور غنيمة أو خراجا، هذه مفاهيمك أنت. الغرب وضع تسميات حديثة و”موضرن”: الاقتصاد العالمي، الشراكة، الفوائد، البنك الدولي، صندوق النقد العالمي، التعاون، نقل الخبرات، الاستثمار.
كما صنع لك مفاهيم ليحتلك: حماية الأقليات، الحماية (المغرب مثلا).. إلخ، صنع لك مفاهيم ذكية تتقبلها وأنت تبتسم، بل وأنت تدافع عنها وتستميت في الدفاع عنها ضد إخوتك باسم الحداثة والعصر والسماء الزرقاء.
فهذه ليست حضارة، ليست هي الحضارة الصينية التي لديها ما يزيد على 3000 سنة، أو الهندية التي لديها ما يزيد على 400 سنة، أو الإسلامية التي لديها ما يزيد على 1400 سنة.
وبخلاصة عاجلة: الحضارة الغربية رجل قوي لديه سلاح، دخل قرية جميع سكانها لديهم آلاف السنين هناك، فاستولى عليها.