كانت الساعة تشير إلى حولي منتصف الليل، عندما سمعت طرقا على الباب الخلفي، كانت الأسرة نائمة، ما عدا السيدة فاطمة، التي كانت منهمكة في صناعة وإنهاء طبق من الحلفاء. أيقظت ابنتها الكبرى بهدوء، “انهضي بسرعة”، هكذا خاطبت ابنتها سعاد، تابعت قائلة: “لا تخرجي من البيت إلا بإذن مني”. دمدمت بكلمات وهي تحاور نفسها قائلة: “يا رب، من قد يكون هذا الطارق في مثل هذه الساعة؟”. تقدمت السيدة فاطمة نحو الباب، وبيدها اليمنى قنينة كاربون لإضاءة طريقها. توجهت نحو الباب الخلفي وكلها خوف مما يمكن أن يعترض طريقها، لم يكن المنزل مجهزا بالكهرباء، كان مكونا من غرفتين ومطبخ، به شجرتان من التين وشجرة من الموز، كانت العائلة تربي الدجاج والأرانب للاستهلاك العائلي. الباب الخلفي كان مكونا من خليط من الخشب والقصدير، يكمن دوره في الصداع الذي يحدثه كلما فتحته وليس في صلابته. أما الحائط، فكان لا يتعدى المتر والنصف، باستطاعة أي كان تجاوزه والقفز عليه. لكن الحي مراقب بأهله ورجاله، من السهل جدا التعرف على أي غريب غامر بالدخول إليه، من حين لآخر تجد الكلاب الضالة وهي تتجول في أرجائه، باحثة عن طعامها، الذي كانت تزودها به العائلات لدورها في التصدي لكل من كان يزمع بالحي شرا.
توجهت السيدة فاطمة نحو الباب وهي تردد عبارة: “من الطارق، من الطارق، من الطارق؟”، من عادة العائلات ألا تتقدم المرأة أو الفتاة لفتح الباب. كان ذلك من اختصاص الرجل، بادر الزائر برفع صوته قائلا: “أنا محمد، راجلك (زوجك)، افتحي الباب”.
كرر كلامه عدة مرات، كان يريد طمأنة مخاطبته، لكن السيدة فاطمة لم يهدأ لها بال، لم تكن مرتاحة، زوجها خرج من المنزل منذ إحدى عشرة سنة، فكيف الحديث عن رجوعه هذه الليلة؟
زوجها غادر الوطن إلى وجهة غير معروفة، كان الوطن حديث الاستقلال، من قبضة الاستعمار الفرنسي الذي دام لأكثر من أربع وأربعين سنة، قضاها المغرب في ظل استغلال اقتصادي وقهر سياسي واجتماعي. هاجر السيد محمد إلى خارج الوطن بحثا عن العمل لمساعدة عائلته وتوفير لقمة العيش لأبنائه.
لم تجد السيدة فاطمة حلا ما عدا تسلق الحائط للتأكد من اسم ذلك الذي يقف خلف الباب.
فجأة صرخت مطالبة أبناءها بالخروج من الغرفة لاستقبال أبيهم، كانت تردد وبصوت مرتفع: “أبوكم جاء، راه ارجع لدارو”، (إنه أبوكم قد عاد إلى المنزل)، رددت العبارة لمرات عدة، فكان أن اندفع الأبناء دفعة واحدة للسلام على أبيهم، وهم يصيحون: “أبي، أبي، أبي”.
عاد السيد محمد إلى وطنه، إلى أبنائه ومنزله، كان قد بنى منزله بجوار أمه وأخيه، تنحدر العائلة من جبال بني يزناسن المحيطة بمدينة تافوغالت، جبال بني يزناسن الشامخة، المقاومة، التي ساهمت في الدفاع عن الوطن، باحتضانها للمقاومة المغربية والجزائرية ضد الكيان الاستعماري الفرنسي، ظلت ملجأ للمقاومين نظرا لشجاعة سكانها ولوعورة جبالها.
كان الظلام يعم المنزل حينما دخل محمد، هذا الرجل الذي طال غيابه، لقد تغير، إنه يضع طربوشا على رأسه، ابيض لونه، ربما كان ذلك راجعا إلى مقامه في منطقة باردة بأوروبا، التي تخضع لمناخ بارد مصدره شمال روسيا، ومناخ قاري تقل فيه الشمس.
كان السيد محمد مرتديا بدلة على الطريقة الأوربية.
بعد خروج الأبناء من الحجرة، توالت الهتافات ترحيبا بمجيئ الرجل طويل القامة، الكل يردد كلمة “أبي، أبي”، غمرت الفرحة أرجاء المنزل، إلا الطفل الصغير، فقد لزم مكانه دون أن يتحرك عنه، بقي بمكانه دون أن ينطق بكلمة أو حرف، ظلت عيناه تتجولان، تارة نحو إخوته، وتارة نحو هذا الذي ينادونه “أبي”.