جميل أن يتصل بك صديق ليبدي لك مخاوفه عليك لأن تجاوزت الخطوط الحمر في الكتابة، والأجمل أن يتهجم عليك بعض من صنعته أنت وعرفت به وبـ “إبداعه المتواضع” عبر منابرك الثقافية أو برنامجك التلفيزيوني، ويتهددك بوجه مكشوف وواضح في عقر صفحتك الفيسبوكية لأنك انتقدت ولي نعمته وصاحب الحوالة المادية الشهرية التي تأتيه من حي الرياض بالعاصمة المغربية الرباط. يتهجم عليك وهو أذل من أن يشعر بإهانة عزيز أخنوش له ولكل الجالية المغربية بالخارج، أخنوش الذي تحول من تربية المواشي والأغنام والأبقار والأسماك، إلى تربية الأجيال التي اضطرت إلى هجرة بلدها الذي لم يعد ينبت أي شيء أخضر، واختارت منفاها الاختياري خلف بحاره المملوكة هي نفسها بغرقاها من “الحراكة” له.
في هذا المقال سأحاول طرح بعض التخمينات المشروعة، والتي اكتسبتها من خلال دراستي الجامعية في مجال القانون الخاص تخصص االقانون الجنائي، والذي لم تكن هجرتي إلى بلجيكا أصلا إلا لاستكمال دراساتي العليا في مجاله، حيث اخترت أواخر التسعينات مادة دسمة هي علم الإجرام، الجامعة البلجيكية التي قبلت انتقالي إليها بعدما اطلعت على بحث نهاية دراستي الجامعية في المغرب والذي حاز على أعلى ميزة حتى ذلك الوقت (1996)، والذي كان موضوعه يتمحور حول الجريمة المنظمة وخاصة تجارة المخدرات بالمغرب.
قيل الكثير عن تجارة المخدرات بالمغرب وشبكات توزيعها ليس في أوروبا فقط بل وفي مناطق عدة من العالم، وقد أصبحنا نرى في زمن التواصل السريع تهديد باطرونات المافيات من المغاربة يخرجون بوجوهم السافرة ليتحدوا بعض الجهات الأمنية في المغرب ويبتزونها بفتح الملفات القديمة والجديدة وكشف الأوراق، وما كان هؤلاء ليتجرؤوا على ذلك لولا أنهم يعلمون جيدا أنهم مسنوين من جهات جد جد جد نافدة في المغرب، ومتأكدين أنهم فوق كل مذكرة اعتقال حتى لو وطئت أقدامهم أرض المغرب.
السؤال الذي يطرح دائما هو من أين لك هذا؟ والجواب الذي لا يقابل ذلك السؤال هو دائما أنه تم إنشاء لجان ومجالس وهيآت تحقق في الفساد وفي السطو على الثروة، وتصوير الاجتماعات والتصريحات المكوكية، التي سرعان ما يتناساها الناس بعد نشر الصحافة المغربية السمعية البصرية خاصة، فضيحة فلان مع فلانة، أو علان مع علان من أجل علانة، لتحويل الأنظار عن القضايا المهمة، وإشغال العقول بأخبار تافهة كشفاه دنيا باطمة ومؤخرة الشيخة تراكس، ومحاضرة عبد العزيز الستاتي في فن الكمنجة، ومغامرات الشيخ الفيزازي وضحايا راقي بركان، ومسلم وطليقته وعشيقته، ومواضيع تنم عن انحطاط في المنظومة الأخلاقية والسياسية المغربية التي تروج لها إلا من رحم ربك.
الأسئلة المشروعة التي يجب أن تطرح هي ما السر وراء هذا الانتشار الرهيب للمخدرات في الشارع المغربي والذي وصل إلى مدارس الأطفال الابتدائية وقد يصل إلى دور الحضانة إذا استمر الوضع على ما هو عليه؟ لماذا هذا الانفجار الرهيب للاجرام بشوارع المغرب حتى أصبحنا في زمن الساموراي الجاهلي، كل يتقلد سيفا دون خوف من رقابة أو قانون؟ لماذا انتشرت الدعارة في المغرب بشكل لا يتماشى وقيم المغرب الإسلامية وعاداته وتقاليده، لماذا تفجرت الأسر المغربية من الداخل حتى أصبح الأب يقدم على قتل ابنه الصغير بكل احترافية والأم على التجارة في عرض ابنتها لدفع أجرة الكراء وتسديد مستحقات شركة الأنترنيت؟
واقع مزري إلا من رحم ربك -وأتمنى ألا يؤخذ كلامي هذا على محمل التعميم رغم تفشيه- سببه تغييب العقل المغربي في الممارسة اليومية تحت ضغط الحياة التي أصبحت معاناة حقيقية لمعظم المغاربة باستثناء المحتكرين للثروة وهم قلة قليلة، وسقوط عدد كبير من المغاربة في موبقات التخدير الذي ينضاف إلى تخديرهم الممنهج ليستمر الوضع على ما هو عليه، فانتقلت أصناف المخدرات من تلك الرديئة مثل الكيف والشيرة إلى المخدرات الصناعية المرتفعة الثمن كالكوكايين والهيرويين، وصولا إلى المخدرات الصناعية التي تباع بأرقام خيالية، لكن مستلزماتها لا تساوي سعر التراب، وهي من آخر أجيال المخدرات وأقصد بها مخدرات الأفران الزرقاء.
عود على بدء، وعودة إلى مخدراتنا النباتية المغربية كالخشخاش -التي أغرقت السوق العالمية منذ سنوات-، تحتاج هذه المخدرات إلى مجموعة شروط لكي تعطي حصادا مهما كثر لا يشفي شره القائمين عليه، من مساحات ترابية جد خصبة وبمواصفات دقيقة ومعالجات طبيعية وكيمياوية محددة تكتسب بالممارسة أو بالتعامل مع مهندسين زراعيين منحرفين، وتحتاج أيضا إلى كميات وافرة من الماء، وعدد من الفلاحين الأجراء الذين يشترط التصاقهم بمنطقة الزراعة، فلا يتركونها إلا نادرا، بأسرهم وأولادهم -جيش المشرملين السري- مما يتطلب توفير سكن ورعاية لهم، كما تتطلب هذه الزراعة بعد جنيها نقلا آمنا بين المسالك الوعرة والتي تتم غالبا على ظهور الحيوانات رغم توفر العربات الرباعية الدفع الآن، وتحتاج أيضا إلى أسطول من الشاحنات التي تنقلها بعد تجميعها في كميات كبرى نحو المرافئ البحرية لتهريبها أو بعبارة أدق “تصديرها” إلى الخارج، وهذا بغض النظر عن شبكات التوزيع داخليا.
إذاً أرض وماء وبهائم وبحر، كلها تصبح جنودا لزراعة المخدرات المغربية، لكن هذا الأسطول الكامل لا يعود خاوي الوفاض ومهمته ليست رحلة أحادية الوجهة، بل يعود محملا بالعقاقير الاصطناعية المخدرة وبذلك تتضاعف أرباحه وتتضاعف محنة الشعب المقهور المغيب، الذي يحشر في مواسم انتخابية في خيم هذا الحزب أو ذاك، الذي يجود عليه زعيمه من عائدات مثل هذه، فيأكل اللحم والمرق وهو يستمع إلى دروس الوعظ التي تدعو إلى إعادة صياغة التربية لأجيال كاملة من المغاربة، فيعود بكيس فواكه إلى بيته، تقله حافلات تفوح برائحة البنزين المجاني الذي وهب لها من محطات أفريقيا.
لو كان أمثال هؤلاء السياسيين ببلدان مخدراتية كأفغانستان أو البرازيل، لرأيت الطبقة السياسية الواعية قد حاربت مثل هؤلاء الباطرونات وفضحتهم مثلما وقع للعديد من زعماء مافيات المخدرات في أمريكا اللاتينية، وكان أكبر ما يصبون إليه من منصب هو زعامة كارتيل أو إمارة حرب، أما في بلدنا -والعهدة على الحكواتي-، فلا تستغرب إن وجدته على رأس وزارة مهمة ومحورية وسيادية، رغيف كل المواطنين مرتهن بها.