قطيعة المغرب والجزائر مفتعلة.. والعداء يُنعش مستفيدين – د. محمد الشرقاوي

0
533

يَجمع الدكتور محمد الشرقاوي بين تدريس تسوية الصراعات الدولية في الجامعة الأمريكية جورج ميسنوتقديم الخبرة في مجال الانتقال السياسي لدى الأمم المتّحدة، فضلا عن مشاركته في ملتقيات فكرية متعدّدة بالولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا حول قضايا الساعة؛ من أبرزها فلسفة الحكم لدى دونالد ترامب، وأداء الدولة العربية في زمن الأزمات المتلاحقة، وإمكانية تحويل مشروع حوار الحضارات إلى نسق سياسي براغماتي ونظام عالمي جديد، ثم بُعد الهجرة وبُعد الشتات في دراسة مغاربة العالم. وينكب حاليا على مشروع تنظيري جديد لماذا يحتاج العالم العربي إلى صراعُلوجيا كعلم جديد؟“.

في هذا الجزء الأول من الحوار، يقول الشرقاوي إنه إذا تمكّنت الجزائر من حماية نفسها من منزلق العنف وما سعت بعض القوى الإقليمية فعله لاستقطاب موالين لها في مارس وأبريل الماضيين، ستكون جزائر الحكومة المدنية والتعددية السياسية في المستقبل دفعة إلى الأمام في ما يمكن أن نسميه الاستثناء المغاربيفي التحول الديمقراطي، وتعزيز الخط الفاصل بين انتفاضات المشرق وانتفاضات المغرب، وزاد: “وقد لا تصبح الحدود الجزائرية الليبية خيط التباين الجغرافي فحسب، بل وأيضا الحدّ الفاصل بين عالمين سياسيين وثقافيين في المنطقة العربية في زمن التغيير“.

وبشأن دعوة العاهل المغربي للحوار المشترك مع الجزائر، يضيف الأستاذ الجامعي: “كانت مبادرة بنّاءة وحكيمة للحوار حسب منطق التعامل مع الخلافات والصراعات، إذ كان من المفترض أن تعكس بعد نظر وإرادة كل من الجزائر والرباط في الاقتراب من بعضهما بعضا بشكل مستقل ودون ضغط أو ترغيب خارجي. كانت ستعد لحظة قرار مغاربي بامتياز ولحظة مصالحة عضوية خالصة لو استجاب المسؤولون الجزائريون، لكن يبدو أن رجالات بوتفليقة لم ينظروا إليها بعين الجدية أو التمحيص الإستراتيجي، خاصة أنهم كانوا في سجالات مفتوحة حول فكرة ترشيحه للرئاسة للمرة الخامسة على التوالي“.

إليكم تفاصيل الحوار كاملا:

بداية من التطورات التي تشهدها منطقة المغرب الكبير، حيث يظلّ السؤال معلّقا حول مسار الحراك الشعبي وتنامي المظاهرات التي تجاوزت أسبوعها الأربعين في الجزائر. إلى أين تتجه هذه الأزمة؟ وهل يمكن الوصول إلى توافقات سياسية بين الجيش والشارع، أم أن المواجهة تسير نحو إقصاء الطبقة السياسية على غرار رفض الباءات الثلاث؟.

تتميز مظاهرات الجزائر بسلميتها وقدرتها على فهم منطق السلطة لدى جنرالات الجيش، وتكتسي في نظري أهمية ربما تفوق ذكاء المناورات الشعبية في العواصم العربية الأخرى. والمثير أنّ مؤسسة الجيش بضباطها وقائدها القايد صالح تريد أن تستديم دورها إلى أبعد مدى زمني ممكن، لكنّها تجد نفسها في حيرة من أمرها بين مراعاة سيناريو الجيش التونسي في بداية 2011 وسيناريو الجيش السيساويفي مصر صيف 2013، إذ ليس من السهل على هؤلاء القايديون الصالحيونفي الجزائر التنازل عن السلطة أو فقدان مصالحهم المادية ومقاماتهم الاعتبارية في الدولة والمجتمع تحت ضغط مطالب الشارع.

كما قلت في محاضرة ألقيتها خلال ندوة نظمها معهد البروكينز والمعهد الإيطالي للعلاقات الدولية في أبريل الماضي، هناك أكثر من معضلة في الجزائر، منها أن الصدّام المستمر بين مطالب المتظاهرين وإرادة الجيش، منذ 22 فبراير الماضي، أدّى إلى تفتيت الشرعية السياسية وسط ظهور أشكال جديدة من الشرعية في الخطاب العام، مثل شرعية الشعب أصل السلطة، والشرعية الثورية، والشرعية التوفيقية أو الشرعية بالتراضي.

هذا الصدام يضع الجزائر في مأزق حقيقي هو كيفية التوفيق وتسوية الصراع بين مدرستين رئيسيتين: سياسة القوة مقابل سياسة الشعب، فضلا عن الإطار الدستوري المثير للجدل للانتقال، خاصة السجالات التي تدور حول تأويل فحوى المادة 102 من الدستور الجزائري بموازاة مطالب الشارع بتنظيف الكراسي وبدء اختيار من سيقود المرحلة على أساس الاستحقاق والشرف السياسي.

كما تحول خطاب الشارع الجزائري من ارحلإلى الشعب يريد، وهذه سردية ملهمة إلى حد كبير، وتختزل الروح الجماعية من الآن فصاعدا في المنطقة برمتها وفق ما اهتدى إليه عالم الاجتماع غوستاف لوبون حول مزاج المجموعة أو الجمهور. أعتقد أنّ أمام الجزائريين خياران لا أرى ثالثا لهما في الوقت الراهن: إمّا العمل على تحييد الجيش وإقناع جنرالاته بأنّه مؤسسة ينبغي أن تكون في خدمة الشعب وتقف في صفه وخدمة مصالحه الوطنية، وأن مكانها الطبيعي هو المرابطة في الثكنات وحماية الحدود، ولعل النموذج التونسي وموقف الجنرال رشيد بن عمّار يظل قابلا لقراءة متأنية في الولاء الحقيقي للوطن. والخيار الثاني هو احتمال افتعال مواقف من خلف الكواليس أو التحايل على مجريات الأمور، سواء بشعار حماية الأمن القوميأو مكافحة الإرهاب، أو تعبيد الطريق لـسيسيجزائري على طريقة الفهلوة المصرية، عملا بما قاله عبد الفتاح السيسي للواشنطن بوست في أغسطس 2013 إن الجيش المصري أمّ المؤسسات في بلاده.

إذا تمكّنت الجزائر من حماية نفسها من منزلق العنف وما سعت بعض القوى الإقليمية فعله لاستقطاب موالين لها في مارس وأبريل الماضيين، ستكون جزائر الحكومة المدنية والتعددية السياسية في المستقبل دفعة إلى الأمام في ما يمكن أن نسميه الاستثناء المغاربيفي التحول الديمقراطي، وتعزيز الخط الفاصل بين انتفاضات المشرق وانتفاضات المغرب. وقد لا تصبح الحدود الجزائرية الليبية خط التباين الجغرافي فحسب، بل وأيضا الحدّ الفاصل بين عالمين سياسيين وثقافيين في المنطقة العربية في زمن التغيير.

ينادي الجيش وبعض الشخصيات بضرورة إجراء انتخابات رئاسية في 12 دجنبر المقبل. ما هي السيناريوهات التي تتصورها بشأن تنظيم الاقتراع من عدمه وسط احتمال عزوف الناخبين عن التصويت أو احتمال التأجيل؟.

قبل الحديث عن مشروع الانتخابات، حاول بعض النخبة في الجزائر بعد تنحي بوتفليقة المضي بسرعة إلى انتخابات عامة في يوليوز من هذا العام. وهنا ينبغي أن نتوقف عند السؤال: هل ستحوّل أي انتخابات في ظل الظروف الراهنة الجزائر بالضرورة إلى بلد مستقر حتى لا نقول منفتحا على متطلبات التحول الديمقراطي؟.

هناك أقلية في الجيش والأجهزة المركزية وبعض الأحزاب وأصحاب الاستثمارات المالية تريد طيّ صفحة الحراك والاستيقاظ في صباح يوم جديد على وجود رئيس وبرلمان وعملية سياسية متحرّكة واستعادة الحياة الطبيعية. لكن هناك أيضا أغلبية لا ترى في أي انتخابات سوى إعادة إنتاج سلطويات وشخصيات من النادي القديم، فقدت شرعيتها ضمن النقمة الشاملة على وجود Le pouvoir بما يحمله هذا اللفظ من تخمة المرارة المزمنة لدى الجزائريين وخاصّة فئات الشباب.

لا أرى وجود مناخ داخلي يشجع تلك الأغلبية وبقية الجزائريين على التوجه إلى صناديق الاقتراع في غضون أيّام. وينبغي أن نستحضر تجربة سابقة في الهرولة إلى صناديق الاقتراع كما فعل الليبيون، وبتأييد من الأمم المتحدة، بالمضي قدما نحو تنظيم انتخابات 2014 التي لم يتجاوز إقبال الناخبين فيها نسبة 18 في المائة، وأضفت بالتالي الشرعية على مجلس النواب الجديد في طبرق، ثم انتخابات 2015 التي اعترفت بشرعية موازية لمجلس الدولة في طرابلس.

لا أقول إن الحالة الجزائرية تشبه الحالة الليبية، لكن أتمسك بأن الانتخابات قد تأتي بإرادة الأغلبية ضمن أقلية الناخبين، وقد تؤسس لشرعية ميكانيكية جديدة للرئاسة أو مجلس نواب دستوريا، لكنها لا تخلق الوفاق السياسي أو مرونة التعددية والتنافس الإيجابي بين الأحزاب والتيارات في البلاد، ويظل الوفاق السياسي هو رصيد أي شرعية كانت.

دعا بعض مرشحي الرئاسيات الجزائرية إلى فتح الحدود بين المغرب والجزائر، لتتجدد بذلك المناداة بتجاوز الخلافات الثنائية من النخبة السياسية هذه المرّة، علاوة على الشّارع والمثقّفين. هل تعتقد أنّ الأجواء السّياسية الحالية في كلا البلدين قد تحفز على تجاوز الأزمة التي عمّرت طويلا؟.

أوّلا، هذه قطيعة سياسية مفتعلة وليست شعبية بين الجارتين. ومن مفارقات التاريخ أن يكون هناك عناد مستدام بين الأجهزة الأمنية في الجزائر والرباط لتشديد الأسلاك وتحصين الموانع، وحتى منع التقاط صور عند نقطة جوج بغالعلى الحدود.

هو جدار برلين مغاربي قائم منذ 1994، يحاكي أسوار الفصل العنصري التي أصبحت مذلة بعض الحكومات. ويبدو أن جدار جوج بغالتخلّف عن ركب التاريخ بعدما هدم الألمان بمعاولهم وأيديهم جدار الفصل بين الشعبين في التاسع من نونبر 1989، وبعدما تحولت العداوة الألمانية الفرنسية عقب الحرب العالمية الثانية إلى تحالف قوة تترنمّ له مياه نهر الرين قرب مدينة ستراسبورغ.

يبدو أن الحكمة بدأت تظهر في تصريحات بعض الوجوه السياسية الجزائرية الذين أصبحوا يرفضون استمرار هذه القطيعة. وهناك أيضا في السنوات القليلة الماضية جهود نخبة متنورة من المثقفين الجزائريين والمغاربة والتونسيين بضرورة تحقيق الوحدة المغاربية، وأذكر منهم السيد أحمد غزالي، رئيس الوزراء الجزائري السابق، والمختار العبدلاوي، مدير مركز مدى، ومهدي مبروك، مدير المركز العربي في تونس، وغيرهم، وبعض الإخوة من موريتانيا وليبيا. وهناك أيضا مجتمع مدني ينادي باستعادة الوفاق وصب ما يكفي من الزخم في روح اتفاقية مراكش، وإن طال انتظرها منذ ثلاثين عاما.

خلال ندوة نظمها المركز العربي ومركز مدى في فبراير الماضي، تناولت موضوع المكاسب الغائبة والخسائر الحاضرة للوحدة المغاربية: من خطاب المعيارية إلى خطاب البنائية، لتقييم حصيلة العقود الثلاثة الماضية في غياب تلك الوحدة؛ وتناولت معضلة اتفاقية مراكش التي ظلت في رأيي المتواضع أسيرة المنحى المعياري ليس في نصّ المعاهدة ذاتها فحسب، بل وأيضا في استدامتها ضمن الخطاب العام بما قد يفوق التصوّرات الذهنية التي كانت لدى القادة الخمسة: الحسن الثاني، والشاذلي بن جديد، وزين العابدين بن علي، ومعاوية ولد الطايع، والعقيد القذافي، مع وزرائهم ومستشاريهم عام 1989.

مثال ذلك، المادة الثانية من المعاهدة التي نصّت على أنّ الاتّحاد يهدف إلى: تمتين أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها بعضها ببعض، تحقيق تقدم ورفاهية مجتمعاتها والدفاع عن حقوقها، المساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، نهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، والعمل تدريجياً على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال في ما بينها.

لا شك أن النوايا كانت صادقة وقتها في رسم خارطة الطريق لتكتل إقليمي مغاربي طموح بغايات التكتل والبناء المشترك، لكن من مظاهر الثقة المفرطة أو المغالاة في أحلام القادة الخمسة وقتها ما جاء في المادة 17 التي نصت على أن للدول الأخرى المنتمية إلى الأمة العربية أو المجموعة الإفريقية أن تنضم إلى هذه المعاهدة إذا قبلت الدول الأعضاء ذلك“. هذا مثال آخر على الفجوة العميقة بين التنظير على مستوى القمة دون الاستناد إلى دراسات ومراكز خبرة استراتيجية ومستشارين جادين في توعية القادة ووزرائهم بما يتعين توفيره واتباعه لتنفيذ بنود المعاهدة واقعيا.

باختصار، ظلت هذه الرؤى المعيارية بمثابة نشيد رومانسي مغاربي في الخيال السياسي المشترك والمناسبات التذكارية لمغرب كبير في أحلامه ضئيل في برغماتيته. وحان الوقت الآن لتكريس رؤية بديلة تتوخى القطيعة مع الطرح العمودي المعياري، وتتلمس الطريق لبناء بديل يكون أفقيا بفضل ألمعية المثقفين ومراكز الأبحاث المحلية والمجتمع المدني. ويكون هذا البديل بنائيا وبرؤية دوغماتية تساهم في تغليب رؤية المجتمعات الخمسة من القاعدة على الانكماش السياسي لدى القمة، واستحضار المكاسب الغائبة بدلا من إعادة إنتاج الخسارات الراهنة جراء غياب تكتل مغاربي حيوي في زمن التكتلات الاقتصادية العالمية.

مرّ عام كامل على دعوة العاهل المغربي للحوار مع المسؤولين الجزائريين وتشكيل آلية سياسية مشتركة للمضي قدما في الحوار وتجاوز الخلاف، غير أن الموقف الجزائري لم يتجاوب مع هذه المبادرة، كيف تفسّر ما وراء الرد أو التحفظ الجزائري وقتها؟

كانت مبادرة بنّاءة وحكيمة للحوار حسب منطق التعامل مع الخلافات والصراعات، وكان من المفترض أن تعكس بعد نظر وإرادة كل من الجزائر والرباط في الاقتراب من بعضهما بعضا بشكل مستقل ودون ضغط أو ترغيب خارجي. كانت ستعد لحظة قرار مغاربي بامتياز ولحظة مصالحة عضوية خالصة لو استجاب المسؤولون الجزائريون. يبدو أن رجالات بوتفليقة لم ينظروا إليها بعين الجدية أو التمحيص الاستراتيجي، خاصة وأنهم كانوا في سجالات مفتوحة حول فكرة ترشيحه للرئاسة للمرة الخامسة على التوالي.

وجاء توقيت المبادرة في مرحلة تساؤلات أكثر من يقينيات لدى المسؤولين في الجزائر، سواء من حيث دلالتهاالمباشرة أو غير المباشرة قبيل احتفال المغاربة بذكرى المسيرة الخضراء، وأيضا التريث بشأن ما سيقرره آنذاك مجلس الأمن الدولي بشأن مستقبل بعثة المينورسو، وإلى أين سيمضي دور مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض آنذاك جون بولتون بشأن قضية الصحراء.

لا أميل نحو فكرة نظرية النضج في النزاعات Ripeness theory التي ينادي بها وليام زارتمان، لكن أعتقد أن هذا الطرح المغربي الرسمي ومن أعلى هرم في السلطة ينتظر لحظة أفضل عندما ينظم الجزائريون بيتهم الداخلي قبل التحوّل إلى ملفات السياسة الإقليمية. وممّا يعزز التفاؤل لدي قناعة كثير من الجزائريين والمغاربة بأنّ العداء بينهم أصبح عبثيا وأنّه لا يستمر لتحقيق مصالح محددة لهذا الطرف أو ذلك، بقدر ما يعيد إنتاج القطيعة وثقافة العناد والتباعد كغاية في حد ذاتها.

كلّما تجدّدت الدّعوات لتجاوز الخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، تبرز إلى الواجهة بعض القوى في كلا البلدين تجدّد خطاب العدائية وتقوّض خطوات التقارب لتظل الوحدة المغاربية بعيدة المنال، هل هذا وضع طبيعي؟

أعتقد أن هناك مسألتين تجتمعان لقطع الطريق أمام فرص الحوار أو بحث مشروع الوحدة المغاربية بفعل تداعيات الجغرافيا السياسية: أحدهما نفساني والآخر مادي. أوّلا، بعد مرحلة الخروج من معارك الاستقلال ضد الاستعمار الفرنسي وبناء الدولة الوطنية في الجزائر والمغرب، انقلبت روح المغرب الكبير التي نما في حضنها التعاون بين الجزائريين والمغاربة، ونشاط مكتب المغرب العربي في برلين والقاهرة، إلى ما نسميه في علم النفس الاجتماعي نرجسية الفوارق الضئيلة، فتحوّل إلى تنافس بين من يعتدّ بأن الجزائر هي قلب المغرب الكبير، ومن يصرّ على أن المغرب هو عماد هذا المغرب الكبير.

وبعد فترة قصيرة من استقلال الجزائر، انساق الطرفان إلى مواجهة مسلحة خلال حرب الرمال عام 1963 ضواحي تندوف وحاسي بيضة على الجانب الجزائري وفكيك على الجانب المغربي، قبل أن تمكن منظمة الوحدة الإفريقية من التوصل إلى اتفاقية إنهاء إطلاق النار في 20 فبراير 1964 في باماكو عاصمة مالي. كما هي الجروح التي لا تلتئم صحيا بشكل تام، ظلت تركة تلك الحرب والحزازات النفسية والمشاعر القومية، ولا أقول الوطنية، تهيمن على منطق وآليات التعامل مع ملف العلاقات الثنائية، خاصة لدى الأوساط العسكرية والأمنية في كل من الجزائر والرباط.

وفي عام 1975، أثار قرار المغرب الزحف الجماهيري نحو الصحراء لاستعادتها من الاستعمار الإسباني خلال فترة الوهن الصحي والضعف السياسي للجنرال فرانكو في مدريد حفيظة بعض المسؤولين الجزائريين، وتحمّس بعضهم لمطلب الحصول على منفذ باتجاه المحيط الأطلسي. في الوقت ذاته، انطوى نزاع الصحراء من ناحية المغرب ودعم جبهة البوليساريو من ناحية الجزائر حتى الآن ليس على اعتبارات عسكرية واستراتيجية فحسب، بل وغذى أيضا إلى حد كبير التنافس التقليدي بين الجزائر والمغرب، وزاد في تضخّم الأنفة لديهما حول من يكون القوة المركزية أو نجم السهرةفي المنطقة.

ثانيا، التداعيات الأمنية والقومية للخلاف على الصحراء وانحسار الطرفين في دائرة التشكيك والريبة في نوايا وتحركات بعضهما بعضا أوجدت عددا ليس بالقليل من المسؤولين العسكريين وضباط الأجهزة، ممن يعيشون على تفاقم الموقف واستشراء العداء بين البلدين. هناك صفقات أسلحة وميزانيات المراقبة والدوريات وأوجه إنفاق أخرى، وما تحوّل إلى اقتصاد سياسي قائم بذاته يتحرك حول وضع الصحراء والبوليساريو، ويستفيدون منها على مر السنوات الأربع والأربعين الماضية. هناك دائما أثرياء الأزمات كما هو حال أثرياء الحروب.

باختصار، هناك مزيج بين عداء متغرس سيكولوجيا في بعض الدوائر في الجزائر والرباط وعدم الثقة في النوايا الثنائية، وأيضا المنفعية وتمطيط أمد المصلحة المادية والاعتبارية لدى ضباط الجيش والأجهزة الأمنية في العاصمتين. ويهيمن في الوقت ذاته منطق المعادلة الصفرية في حساب كل طرف. هي حلقة مفرغة سياسيا لكنها مربحة ماديا لدى فئة من المستفيدين.

لذلك، كان تعليقي ضمن برنامج تلفزيوني قبل عام على مبادرة الحوار التي أعلنها محمد السادس هو إعادة تقييم الموقفين الجزائري والمغربي ضمن خيار جديد أسميه توازن القوى وتوافق المصالح؛ ومازلتُ أعتبره المدخل الاستراتيجي الأكثر واقعية لإعادة تركيب العلاقات المغربية الجزائرية في حقبة ما بعد بوتفليقة، وتآكل هيمنة الجيش على صنع القرار في الجزائر تحت ضغوط الشارع المتحمس لوحدة المغارب.

يعيش المغرب على وقع مجموعة من الحراكات الاجتماعية طوال السنوات الثلاث الأخيرة، على رأسها أزمة الريف التي مازالت محل تجاذب بين القوى السياسية وعائلات المعتقلين. كيف تفسر نشوء الاحتجاجات المناطقية الهوياتية بالمغرب؟ هل ستتضاعف في المستقبل القريب في ظل السياسات العمومية المنتهجة حاليا؟.

هناك تواتر غير مسبوق للاحتجاجات في الحسيمة وجرادة وكلميم، وإضراب الأطباء وموظفي قطاعات حيوية أخرى، وحركة المقاطعة، ووقفات الاحتجاج المتكررة أمام البرلمان؛ ولا يمكن لأي تحليل محايد أن يتجاهلها أو يسقطها من القياس. هي مؤشرات على تراجع رأس المال السياسي في المغرب، خاصة منذ بداية 2017، ما يشكل شجرة تخفي وراءها الغابة. ويمكن أن نقف قليلا عند نقطة التقاطع بين اثنين من الاتجاهات السلبية في هذا التراجع: الأول عمودي، والآخر الأفقي.

هناك تآكل للرأسمال السياسيين المجتمع والدولة؛ فقد سعت المؤسسة السياسية المركزية بشكل متزايد للحفاظ على هيبتها، واعتمدت سياسة المطرقة القانونية في الاعتقال والمحاكمات وإنزال العقوبات على فئة متنوعة من النشطاء في حراك الريف. ووفقا لبرنامج عرب ترانس، أصبحت الثقة في المؤسسات السياسية المغربية من بين أدنى المعدلات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

في أكتوبر2017، تحدّث الملك عمّا وصفه زلزالا سياسيامحتملا واعداً في تثبيت آلية للإنتاجية والمساءلة في العمل الحكومي والإداري. ومع ذلك، كان خطاب اللوم وتكريس المنطلق الأمني/القانوني، الذي استثمرت فيه المؤسسة السياسية بكثافة في العامين الماضيين، أكثر رمزية من تحقيق البراغماتية في التعامل مع تلك التطورات، التي مازالت تشكل فيضاً من الاضطرابات الاجتماعية الأعمق. وثمة نقص في مستوى الابتكار السياسي لدى النخبة السياسية، وبالتالي استنساخ الخطاب الرسمي الكلاسيكي بنبرة الحسم في تحديد المسؤولية.

يرتبط هذا التراجع العمودي في مستوى الرأسمال السياسي في المغرب أيضا بتراجع الهوية الوطنية المغربية المركزية ونكوصها إلى هويات فرعية بديلة؛ وتزداد حاليا في الخطاب العام سجالات الأحقية والشرعية ضمن مواجهات جديدة: الأمازيغ مقابل العرب، والريافة مقابل العياشة، والإسلاميون مقابل الحداثيون، المواطنون مقابل المخزن، وقس على هذه المعارك المفتوحة.

هناك أيضا تآكل أفقي لرأس المال الاجتماعي يحدث داخل المجتمع نفسه، ويمكن تسميته بتآكل مجتمعي، إذ انخفض مستوى الثقة العامة داخل المجتمع، فأكثر من 80٪ من المغاربة لا يستطيعون الثقة في بعضهم بعضا وفقا لبيانات مؤشر BTI. وقبل عام تقريبا، نشر معهد Legatum في لندن مؤشر الرفاهية الاجتماعية في العام خلال 2018، حيث جاء المغرب في المرتبة 103 من بين 148 دولة، وسجل أدنى مستوى في الحكم والتعليم والحرية الشخصية ورأس المال الاجتماعي. وتراجع وضع المغرب بثماني مرتبات مقارنة مع المرتبة 95 عام 2008.

في دراسة منفصلة تعرف باسم المؤشر العالمي لرأس المال الاجتماعي، وتشمل تحليل أوضاع 180 دولة، جاء المغرب في المرتبة 160 بـ37.1 نقطة بعد زيمبابوي في المرتبة 122، وكينيا في المرتبة 80، وإسبانيا في المرتبة 37 خلال عام 2017.

التقارير الرسمية مثل تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تفيد بانتشار خيبة الأمل واليأس العميق بين الشباب أكثر من بقية شرائح المجتمع الأخرى؛ وتوصل إلى أن اثنين من أصل كل ثلاثة مغاربة انقطعوا عن التحصيل الدراسي، ويعاني واحد من أصل كل خمسة مغاربة مشاكل تتعلق بصحتهم العقلية، وأن ثلاثة من كل أربعة مغاربة ليس لديهم تأمين اجتماعي.

هذه مؤشرات مغربية ودولية تعكس حالة سلبية في أوضاع المغاربة ومعنوياتهم. وكلما حاولت الاحتفاظ ببعض التفاؤل، أعود إلى ملاحظة لعالم السياسة الأمريكي جون واتبوري عندما قال إنعملية التحوّل في المغرب لا تمضي قدما، بل تدور على نفسها في دوائر“.

لا غرابة أن تنطوي التفاعلات الراهنة بين المجتمع والدولة على حقيقة أن المغرب يظل رهينة معركة مفتوحة وعير محسومة بين شرعيتين متنافستين: شرعية من أسفل إلى أعلى تستمد زخمها من المظالم الشعبية من أجل ضمان الاحتياجات البشرية الأساسية ومطالب الإصلاح، مقابل شرعية من أعلى إلى أسفل، تعكس إرادة الدولة والتلويح بسيادة القانون، كما هو الحال في التعامل مع حراك الريف، وغيرها من أنساق وتجليات تأكيد الدولة لسلطاتها الأساسية.

وعند تحليل شعارات حركات الاحتجاجات الأخيرة ومحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، يستشف المرء أن مطالب المساءلة من القاعدة إلى القمة قد ارتفعت إلى ما هو أعلى من الحكومة والأحزاب وسائر المؤسسات العامة. وتزداد القناعة لدى الكثيرين بأن المسؤولية النهائية هي على عاتق الملكية ذاتها، أو كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان عام 1945The buck stops here“.

علاوة على مشكلة البطالة المستشرية، أصبحت السياسات العامة تتبنى التراجع أمام قوة المال والاستثمار في مجالات حيوية مثل الصحة والتعليم. ولم يعد هؤلاء الشباب يؤمنون بإمكانية تحقيق ذواتهم في بلد أدّت فيه قوة المال والنفوذ إلى انشطارية تدعو للقلق عندما تصبح فاتورة العلاج الطبي وفاتورة التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي أهم من توجّع المريض أو طموح الطالب.

يبدو أنها هجمة جامحة لرأسمالية مغربية متوحشة تفترض من الأسر بكافة مستويات الدخل تخصيص ميزانية مستدامة تغطي فاتورة التعليم لسنوات طويلة من المرحلة الابتدائية حتى الباكالوريا أو حتى المرحلة الجامعية، مع الترويج لمقولة أن التعليم الخاص أفضل من نظيره العام. هناك استغلال للمصلحة العامة وتكديس الأموال من وراء اتساع القطاع الخاص في الصحة والتعليم والاحتياجات الأساسية الأخرى، ما ينمّ عن سياسات عامة غير متنورة تفرّط في الشباب وهم الرأسمال الحقيقي للدولة والمجتمع في آن واحد.

تنطوي مؤشرات هذا التراجع في كل من الرأسمال السياسي والمجتمعي على تصعيد ضمني لانزعاج اجتماعي ممتدّ تزداد حدّته مع استمرار حراك الريف. ويؤدي المزيج بين فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ودينية الخطاب لدى حركات الإسلام السياسي، ومنحه الدولة في تكريس السياسة الواقعية بتبريرات ميكيافيلية أحيانا، إلى تحولات سلبية في التماسك المجتمعي وتعميق التفكك بين الدولة والمجتمع في المغرب متعدد الروافد العرقية واللغوية والحضارة.

وكما يقول إدوارد عازار: “إن النزاع الاجتماعي الممتد يشوّه ويؤخّر الأداء الفعال للمؤسسات السياسية، فهو يعزز ويشجع التشاؤم في جميع فئات المجتمع، ويحبط القادة، ويعيق البحث عن حلول سلمية“. والملاحظ أن المجتمعات التي تعاني صراعات اجتماعية طويلة الأمد تجد صعوبة في الشروع في البحث عن إجابات لمشاكلها ومظالم مواطنيها. وربما وصل المغرب إلى هذه المرحلة من الإرهاق السياسي، وأخشى عليه من فقدان البوصلة.

فوق اعتبارات المسؤولية، يحتاج المغرب إلى وقفة مع ذاته وتقييم حصيلة المنطلق الأمني المهيمن في التعامل مع كافة تحدياته الراهنة داخليا. وقد يكون من الأجدى أن يقبل أن حراك الريف ليس صراعا أزليا، وأنّ منطق التخوين لأبنائه لن يزيد إلاّ في انشطار اللحمة المجتمعية في الداخل، ويعزّز نموّ شتاتٍ معارضٍ في الخارج، في هولندا وبلجيكا وإسبانيا ودول أخرى. وكما كان نزاع الصحراء بالأمس ملهما بخطاب الوطن غفور رحيم، قد يكون اليوم ألمعيا بابتكار خطاب مواز إننا في المواطنة متصالحون“.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here